لم تدع فرنسا ذكرى ولادة الشاعر والمسرحي موليير (1622-1673) أو جان باتيست بوكلان، الأربعمئة تمر، من دون أن تعم الاحتفالات بهذه الذكرى طوال الأشهر المقبلة، أرجاء البلاد، مدناً وقرى وجمعيات ومكتبات ومسارح وندوات ومحاضرات ولوحات وتماثيل في فرساي وغيرها، احتفاء بمن اقترن اسمه باللغة الفرنسية. ولم يكتف بذلك، بل يعاد تسليط الضوء على مسرحيات ذلك الكاتب الأكثر انتشاراً في العالم الحديث، والأكثر تداولاً وأداءً في فرنسا والعالم، فأعدت لمسرحياته طبعات جديدة فاخرة، وضمت في مجلدات ضخمة تليق بالمحتفى به، وطبعت كتبه كلها طبعات شعبية حتى تأمن السلطات وصولها إلى كل من يقرأ بلغته، ويفيد، وتتسع رؤاه وصدره، ويكبر في عين نفسه.
بالطبع، لم يحدث أن احتفت سلطات لدينا بأديب على هذه الصورة. وهذا شأن آخر قد يأتي الكلام عليه لاحقاً. وإنما المقصود هنا الحديث عن موليير، وكيف استقبله العرب بداية عهدهم بالنهضة، ومن ترجمه، وكيف تعاطى المسرحيون العرب معه، وما بقي من إرثه لديهم.
بداية، قل من لم يسمع بموليير، الكاتب المسرحي الهزلي، ذي العشرين مسرحية بين الهزلية والملهاة والمأساة، من مثل: \”مدرسة النساء\”، و\”دون جوان\”، و\”النساء المتكلفات\”، و\”كاره البشر\”، و\”البخيل\”، و\”المنافق\”، و\”المتطفلون\”، و\”البورجوازي الشريف\”، و\”خداع سكابين\”، و\”النساء العالمات\”، وغيرها. ومن النافل القول إن مسرحيات موليير تطرقت، في الأعم الغالب، إلى فضح الطبائع البشرية، وانتقاد التكلف المفرط لدى الطبقات الثرية في المجتمع الفرنسي أواسط القرن السابع عشر، وحتى الغمز من قناة السلطات المسيحية وتطرفها في وضع الحدود أمام حرية الرأي والمعتقد والتعبير. وقد عانى موليير من تسلط رجال الدين وإلحافهم وسعيهم الحثيث إلى منع بعض أعماله من الصدور، لمسها برجالات الدين، أو لمبالغتها في فضح التقوى الزائفة لدى المؤمنين، وحتى حرمانه من ممارسته الطقوس الدينية والصلاة على جثمانه، إلا بعد تدخل من الملك لويس الرابع عشر، في حينه.
مارون النقاش المولييري الأول
أياً يكن من أمر نفحة التحرر وإطلاق حرية الرأي في ما يخالف حس الرشاد والاعتدال التي أسهم موليير في بثها عبر مسرحياته، فإن سؤالاً قد يطرح عن الداعي إلى اختيار المسرحيين العرب بدء مشوار المسرح في بلادهم بموليير، وليس بغيره؟ للإجابة أقول، إن \”مارون النقاش (1817-1855) رائد المسرح اللبناني والعربي، المولود في صيدا، والمفتون بالمرسح (المسرح) في أسفاره إلى إيطاليا كان أول مبادر إلى إنشاء هذا الفن، من باب \”تهذيب الطبائع\” على حد قوله، في خلال خطبة ألقاها لمناسبة افتتاح مسرحية \”البخيل\” المتفقة أجواؤها مع بخيل موليير، ولكن المقتبسة حبكتها عن بلوتس، في مسرحيته \”أولولاري\” (الناقد الأكاديمي لطيف زيتوني، 1994).
قال النقاش في خطبته تلك \”وها أنا متقدم دونكم إلى قدام، محتملاً فداءً عنكم إمكان الملام، مقدماً لهؤلاء الأسياد المعتبرين أصحاب الإدراك الموقرين، ذوي المعرفة الفائقة… الذين هم عين المتميزين بهذا العصر، وتاج الألبَّاء بهذا القطر… ومبرزاً لهم مرسحاً أدبياً، وذهباً أجنبياً مسبوكاً عربياً. على أنني عند مروري بالأقطار الأوروباوية وسلوكي بالأمصار الإفرنجية، قد عاينت عندهم فناً بين الوسايط والمنافع التي من شأنها تهذيب الطبائع…من ظاهرها مجاز ومزاح، وباطنها حقيقة وصلاح…\” (مارون النقاش، أرزة لبنان، 1867).
وفي المحصلة الأخيرة، قد يجد الباحث أربعة مشاهد، من مجمل فصول مسرحية \”البخيل\” للنقاش، ترتبط بقدر من الشبه بنظيرتها لدى موليير، إلا أن صوغ الحبكة والرؤية الأخلاقية الإصلاحية التي تتحكم بخلفية بناء الشخصيات بدتا خاصتين بالمؤلف، وأقرب إلى رؤية الكاتب المسرحي الروماني القديم بلوتس (254-184 ق. م).
هذا في ما خص بداءة المسرح في لبنان، ولكن كيف كانت البدايات في المسرح، بالبلدان العربية الأخرى؟ للإجابة أقول إن ثمة قاسماً مشتركاً بين بدايات المسرح في لبنان وبلدان المشرق، وبين مصر والجزائر وتونس وغيرها، هو اتصال النخب المثقفة والمتعلمة فيها بالغرب، واطلاعها على هذا \”الفن الأدبي\”، على قولة مارون النقاش، وعزمها على نقله إلى البلاد إحقاقاً لصورة التمدن، كما شاعت عبر صحافة النهضة، ومن خلال التعليم بمستوياته العالية منذ أواخر القرن التاسع عشر.
موليير مصرياً
يعقوب روفائيل صنوع (1839-1912) أو \”موليير مصر\”، حسب اللقب الذي أسبغه عليه الخديوي إسماعيل -ولم يلبث أن انقلب عليه بسبب مشاريعه التنويرية المعارضة للسلطة التي يمثلها- كان الرائد الأول لإنشاء المسرح المصري، بتشجيع من الخديوي نفسه. والحال أن يعقوب صنوع، خريج إيطاليا ومعاهد الفنون فيها، والباحث في الأدب العربي -ناشراً أبحاثه بالفرنسية والإيطالية والإنجليزية التي يتقنها إلى جانب سبع لغات أخرى- والشغوف بالمسرح منبراً للتقدم وبث الوعي السياسي والاجتماعي بمصر، اعتبر بحق واضع اللبنة الأولى في أساس المسرح الوطني المصري عام 1869، وبرضا الخديوي الذي كان لا يزال راعياً جهوده. ومن المسرحيات التي ألفها صنوع اقتباساً من موليير، ومن دون الإشارة إليه: \”البنت المصرية والضرتان\”، و\”البورصة المصرية\”، و\”العليل\”، و\”الصداقة\”، و\”الأميرة الإسكندرانية\”، و\”أبو ربدة البربري\”، و\”البخيل\”، و\”مقالب سكابان\”، و\”حكم قراقوش\”، و\”الدكاكني\”، و\”سلطان الكنوز\”، و\”شيخ الحارة\”، وغيرها. والمهم في كل ذلك، أن صنوع، حين استلهم الواقع المصري وأراد تسليط الضوء على مكامن التخلف فيه، ولا سيما تعليم الفتاة وتعدد الزوجات والتمارض، وغيرها، تمهيداً لإصلاحها والارتقاء بالمجتمع المصري إلى مرتبة التمدن العليا التي عاينها في أوروبا وخبر طلاوتها.
ولكن أين موليير من تجربة صنوع المسرحية؟ قبل الإجابة عن السؤال الآنف، أشير إلى أمر ثابت لدى الباحثين في أدب النهضة، وهو أن ترجمة أعمال موليير إلى العربية -وكان المسرحي الأكثر استحواذاً على الإطلاق في حينه- تزامنت، في الغالب، مع تأليف النصوص المسرحية ذات الطابع المحلي (الناقد لطيف زيتوني) ولغايات إصلاحية كما سبقت الإشارة. أما فضل موليير عند صنوع فماثل في أمرين: أولاً، في منهج المسرح الكلاسيكي المنضبط والقائم على معرفة النوع وأدواته بالتفصيل، ودرس طبائع الشخصيات الرئيسة، وانتقاد مظاهر المجتمع النافرة انطلاقاً من رؤية فكرية وأخلاقية وسياسية إصلاحية، ثانياً، في محاكاة أعمال موليير نفسها، وتمثيلها، مع ميل إلى تعديل العديد من المفاصل فيها (المكان والزمان، والأحداث، والشخصيات، وبنية المشاهد والفصول) بحيث تأتي منسجمة مع واقع مصر، ومتآلفة مع ذوق جمهور الخاصة والعامة في البلاد. وهذا ما يقربها من الاقتباس بالدرجة القصوى، في حين أن تأليف المسرحيات الصنوعية (إن صح التعبير) يقع في باب الاقتباس بدرجته الدنيا.
ولعل القاسم المشترك بين كل من النقاش وصنوع -وهو الأهم- اختيار موليير أول مرجعية في المسرح المحلي، من أجل الاقتباس عنه، لبناء مسرح محلي، تقليدي وملائم لوظائف النهضة والتمدن التي لطالما نبه إلى قيامها المثقفون النجباء في البلدان العربية المعنية، والمساهمة في ذلك، من أمثال طه حسين، وأحمد حسن الزيات، وإبراهيم المازني، وعثمان جلال، وخليل مطران الذي ترجم الكثير من مسرحيات موليير، والياس أبو شبكة، وغيرهم بعد يعقوب صنوع، ترجمة واقتباساً وتأليفاً.
موليير المغاربي
وبالعودة إلى بعض الدراسات، (محمد يوسف نجم، وعلي الراعي، وهاجر طيب) يتبين للباحث الأمور الآتية:
أولاً- في كل من الجزائر والمغرب، ولما كان المجتمع تقليدياً بعامة، ومتمسكاً بالتراث، فقد كان دخول المسرح إلى صلب الحياة الاجتماعية عسيراً بعض الشيء. إلى أن أحرزت النخبة المثقفة قدراً من المكانة خولتها طرح تصورها عن الفنون التي عاينت أثرها في المجتمعات الغربية التي اتصلت بها، ولا سيما المسرح.
ثانياً- وقد يكون من باب الاقتداء أن عبد القادر المصري ومحمد بنسالي، ومحيي الدين بشطارزي، وسليمان القرداحي الجزائريين، لجأوا إلى موليير، منذ عام 1922، في مستهل عهدهم بالمسرح، فترجموا أعماله وتصرفوا فيها ما شاؤوا، من دون أن يصرحوا بمرجع اقتباسهم أو ترجمتهم.
إلى أن تفرد محيي الدين بشطارزي، في عام 1940 بعرض مسرحياته المقتبسة من موليير، وباللهجة الجزائرية الدارجة، مصرحاً في خلالها باسم موليير، وللمرة الأولى، على بطاقة الدخول الفنية. ومن تلك المسرحيات \”الشجاع\” وغيرها. ولئن عمل بشطارزي على عرض مسرحيات موليير، من مثل: \”طرطوف\”، و\”مريض الوهم\”، و\”البورجوازي النبيل\”، و\”الطبيب رغماً عنه\”، و\”احتيال سكابان\”، وغيرها، فإنه عمد إلى اختزال فصولها، وإضافة بعض السمات المناسبة للجمهور الجزائري.
ثالثاً- في المغرب، كانت تجربة الطيب صديقي (1939-2016) أحد أعمدة المسرح المغربي والملقب، بدوره، بموليير المغرب، لا تزال ماثلة في الأذهان؛ فهو، إلى جانب الطيب لعلج، أول من اقتبسا عن موليير، بل اقتبسا جميع أعمال موليير، وسمياها على التوالي: \”غيرة الملطوخ\”، و\”مريض خاطرو\”، و\”الفضوليات\”، و\”الحاج العظمة\”، وغيرها. وكان الأخير بين الاقتدار على مغربة العديد من المسرحيات الغربية حتى لتبدو كأنها كتبت في المغرب. وبدوره، كان للصديقي أثره المتميز في المسرح المغربي، وكانت رائعته \”محجوبة\”، وهي مسرحية مقتبسة من أعمال موليير (مدرسة الزوجات) لاقت استحساناً منقطع النظير، لدى عرضها عام 1961.
رابعاً- ربما كانت تونس البلد العربي المغربي الوحيد الذي لم يستهل نشاطه المسرحي بموليير، وإنما بمسرحية مترجمة عن الفرنسية لتولستوي، وهي بعنوان \”سلطان الضلال\”، كان عرَّبها محمد المشيرقي عام 1911. وقيل إن أقدم مسرحية عرضت على الجمهور التونسي كانت بعنوان \”نديم أو صدق الإخاء\” عام 1909. وقد انتظر التونسيون إلى العشرينيات الأولى من القرن الماضي لتأسيس الفرق المسرحية، مثل فرقة \”الآداب\” و\”الشهامة العربية\” و\”المستقبل العربي\” وغيرها. ولكن الثابت في أعمال المسرح أنها كانت تركز، في البدايات على الأخلاق الفاضلة ونشر الوعي الوطني والصلاح ونبذ كل مناحي التطرف والشر في سلوك الإنسان. وذلك هو القاسم المشترك الأكبر بين جميع التجارب المسرحية العربية، إلى جانب اعتبار موليير، المحتفى بميلاده الأربعمئة في فرنسا، سيد هذا التطلب الأخلاقي، الإصلاحي.
وبعد، ألا يبدو طيف موليير حاضراً بالقوة وبالفعل، في نهضة المسرح العربي، على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين المنصرمين؟ ولربما يحسب أحد بناة مسرحنا العربي، وانطلاقته الأولى وما تلاها من مراحل.
أنطوان أبو زيد: اندبندنت عربية