\”روح المرأة\”، عنوان كتاب مذكرات إيزابيل اللندي الجديد الصادر بالإنجليزية عن دار بلومزبري، وفيه تضع خلاصة تجاربها ورؤاها الحياتية، وتخاطب النساء متوجهة إليهن بجرأة. وكعادتها لا تخجل من الكشف عن أمور شديدة الحساسية، تناقشها بوضوح ومن دون حيادية، وتتوقف مطولاً عند فكرة \”العمر\”، وتحكي عن تجربتها وتجارب نساء أخريات.
وقد تزامن صدور هذا الكتاب مع ظهور صاحبته بهيئة جديدة تختلف تماماً عن مظهرها المألوف لقرائها، شعر أشقر مع عدسات زرقاء، ملامح تجعل من صاحبة \”أفروديت\” امرأة مختلفة. لم تبتعد اللندي عن الأضواء ولم تخش فلاش الكاميرا أو شاشات الكمبيوتر التي تنقل صورتها مباشرة، بل اختارت التعبير بطريقتها عن شغفها بالحياة وتحملها لكل عقباتها. فمع حلول شهر أغسطس (آب) من العام الحالي، تُكمل الكاتبة التشيلية عامها التاسع والسبعين فهي من مواليد 2 أغسطس 1942. ولو توقفنا قليلاً عند المعطيات الشكلية المتغيرة للكاتبة، وهي تستحق التأمل لأنها ترتبط بأمرين أعلنت عنهما من قبل، الأول في مذكراتها \”حصيلة الأيام\”، حين علقت على بلوغها الستين، قائلة، إن هذا العمر منحها مزيداً من الحرية ، ولم يعد مطلوباً منها المحافظة على وزن معين، أو ارتداء الكعب العالي في المناسبات، بل من المقبول جداً أن تنتعل حذاء رياضياً في كل الأماكن… الأمر الآخر، كشفها منذ حوالى العام أو أكثر، أنها تعيش قصة حب مع أحد قرائها، وجدت منه رسالة بين مئات الرسائل التي تتلقاها عبر الإيميل. وبالصدفة لفتت هذه الرسالة اهتمامها، ثم تحولت إلى سلسلة من الرسائل المتواصلة طوال ستة أشهر، لتنتهي بالزواج أخيراً من \”روجر\”، وعلقت إيزابيل على هذه الحادثة قائلة، \”لا نعرف متى يحدث الحب\”.
لا يمكن اعتبار إيزابيل اللندي كاتبة متجددة فقط على مستوى الشكل، فهي خلال العزلة المفروضة بسبب وباء كورونا وجدناها تُشارك في عديد من الأمسيات الافتراضية وحلقات النقاش. بل وقدمت أيضاً محاضرات حول الكتابة الإبداعية، وتحدثت بإسهاب عن كتابها الجديد وعن مرحلة الحظر، التي منحتها \”الصمت والوقت والعزلة\” كما تقول، وهي أمور تحتاجها للكتابة، ما ساعدها على إنجاز \”روح المرأة\”، ورواية أخرى، سوف تنشرها قريباً. إلى جانب أنها كانت تمضي شهر العسل مع \”روجر\”، الذي تصف علاقتها به بأنها قائمة على معرفة بعضهما بعضاً كما لو أنهما عاشا عشر سنوات معاً. و تحكي في يومياتها بأنها تكتب ست ساعات أو سبعاً يومياً، وتُطعم كلابها، وتمارس تمارينها وتهتم بزوجها.
هموم أنثوية
يستطيع المتابع لمسيرة اللندي منذ كتابها الأول\”بيت الأرواح\”، ملاحظة قدرتها الدائمة على فتح الأبواب، وتكسير الحواجز والسدود التي تعيقها، بما فيها عجزها عن الكتابة أحياناً. لا أسرار في حياتها، إلا تلك التي تتعلق بالآخرين، ولم يسمحوا لها بالغوض فيها. وغير ذلك، كل شيء يشغف انتباهها من الممكن أن يتحول إلى نص، وهذا يشمل علاقات محرمة. رواية \”صورة عتيقة\” تعرضت لعلاقة البطل مع زوجة أخيه، أو علاقة مثلية حين تكشف في مذكراتها \”حصيلة الأيام\” عن علاقة زوجة ابنها مع خطيبة ابن زوجها، وكذلك التلميح لعلاقة مشابهة في روايتها الأولى \”بيت الأرواح\”، حيث لا حدود أمام الأدب. تكتب اللندي هذه الحقائق ببساطة وتلقائية مفرطة، كما لو أن وجودها أمر مسلم به. وهي ككاتبة لم تقم بأي فعل مغاير سوى نقلها من جانب الواقع إلى حيز النص، لذا تبدو كتابتها نابضة بحياة حقيقية، بكل ما فيها من جراحات محتملة. فهذا جزء من الحياة علينا تقبله، كما ترى اللندي، وهي كاتبة تُعرّف عن نفسها بأنها \”نسوية\” كل بطلاتها يواجهن مصائرهن بشجاعة وإرادة جوهرية، ويتقبلن الحقائق مهما كانت بشاعتها. ولعل رواية \”صورة عتيقة\” و\”ابنة الحظ\” خير نموذجين على تلك الرؤية.
في أعمالها التي صدرت في الأعوام الأخيرة ما قبل \”سفينة نيرودا\”، بدت كتابات اللندي أقرب إلى الروايات \”الأكثر مبيعاً\”، مع روايتين ظهرت فيهما إقحامات مباشرة على مستوى تركيبة الشخوص ومتن السرد. هذا ما نجده في رواية \”العاشق الياباني\” و\”ما سيأتي به الشتاء\”، فالمكان في هذين العملين هو أميركا، وربما هذا ما ترك انعكاساته على كلا العملين، إذ غابت عنهما بصمة اللندي المميزة، التي وجدناها حتى ضمن أعمالها الفانتازية كما في \”زورو\” و\”مدينة البهائم. في \”ماوراء الشتاء\” التي قامت حبكتها الرئيسة على التشويق قدمت اللندي المجتمع الأميركي بمجمل أطيافه ومشاربه وتناقضاته ومعاناته،كالجريمة، وأزمة المهاجرين، والمثليين، واليهود، والملحدين، والأثرياء، والفقراء، والمؤمنين بالمثل الروحية، والمنحرفين… لقد جمعت شخصياتها في لقاءات مفتعلة لم تبدُ مستساغة أو طبيعية كما في أعمالها السابقة. ولعل حرص اللندي على البدء بعمل جديد مع كل عام في الثامن من يناير (كانون الثاني) تحديداً، جعلها تقع في فخ الإصرار على الكتابة، وهذا يختلف تماماً عن رغبة الكتابة التي تتدفق تلقائياً. في أحد المشاهد ضمن مذكراتها \”حصيلة الأيام\”، تصف لحظة إحساسها بـ\”نضوب بئرها الداخلية\”، وكيف أخذت قرارها بالسفر إلى الهند، وكيف أنها كانت تتوجه للسماء بالدعاء كي تستمر في الكتابة. رحلة الهند نتج منها قرار اللندي بأن تُنشئ مؤسسة لرعاية النساء وإيوائهن، وهذا ما فعلته، ومازالت تفعله من ريع كتبها التي تترجم لأكثر من ثلاثين لغة.
يأتي كتابها الخامس والعشرون \”روح المرأة\”، لينضم إلى كتب سيرتها الذاتية بعد \”باولا\” و\”بلدي المخترع\” و\”حصيلة الأيام\”، فما الذي أرادت اللندي قوله ولم تحك عنه من قبل؟
\”أحب كتابة القصص\”، هذه الجملة التي تقولها اللندي تبرر كل محاولاتها للكتابة، إذ ثمة قصة لا تنتهي تود سردها دائماً. لذا يبدو كتاب\”روح المرأة\” حافلاً باستدعاءات لمشاهد من حياتها تبرر قناعاتها النسوية، تصف لحظات ضعف والدتها بعد أن فقدت زوجها، وأصبحت بلا مصدر دخل، تقول، \”لم أرغب أن أكون مثل أمي، أردت أن أكون أكثر حرية واستقلالاً\”.
ترى اللندي أن لديها كثيراً لتشاركه مع النساء في هذا العالم، وأن النساء في الغرب يعانين من الخوف والتمييز أيضاً، وإن كان بنسبة أقل بسبب القوانين الداعمة للمرأة. ولا تعتبر أن حياتها تراجيدية، بل إنها محظوظة بحصولها على النجاح والشهرة وفرارها من الحكم العسكري في بلدها تشيلي، على الرغم من مأساتها الكبرى في موت ابنتها \” باولا\”.
تتحدث اللندي في \”روح المرأة\” عن التقدم في العمر، وأن الإنسان، على الرغم من زيادة معدل عمره قرابة عشرين عاماً مقارنة مع آبائه وأجداده، لكن مستوى معيشته لم يتحسن أبداً، بخاصة بعد التقاعد وقلة المال ونظام التأمين الصحي السيء. وتتوقف متأملة حياة كبار السن سابقاً والآن، وكيف كان الأجداد يمضون حياتهم ضمن العائلة، بينما الآن معظم كبار السن يمضون سنواتهم الأخيرة في دار المسنين ويموتون وحيدين. وتدافع عن \”الموت الرحيم\” معتبرة أنه من حق الإنسان الموت بكرامة وفي اختيار وقت موته في حال أحس بأن حياته صعبة، وأن آلامه لا تحتمل.
تصف اللندي زمن شبابها في أواخر الستينيات، وهي كانت مرحلة ظهور صوتها النسوي إلى العلن، مع وجودها بين مجموعة من الصحافيات الشابات اللواتي لديهن الأفكار عينها، فكتبن بقوة حول قضايا المرأة. وتتساءل في الكتاب ما الذي يغذي روح النسويات (جميع النساء) اليوم؟ تقول، \”أن نكون آمنات، وأن نحظى بالتقدير، وأن نعيش في سلام، وأن تكون لدينا مواردنا الخاصة، وأن نكون على اتصال مع كياننا الداخلي، وأن نتحكم في أجسادنا وحياتنا، وقبل كل شيء، أن نكون محبوبات بلا شروط، وعلى كل هذه الجبهات، هناك كثير من العمل الذي يتعين القيام به\”. تأمل الليندي أن \”يضيء هذا الكتاب النور لبناتنا وحفيداتنا، فهن سيتعين عليهن العيش من أجلنا، كما عشنا من أجل أمهاتنا، ومواصلة العمل الذي لا يزال يستحيل الانتهاء منه\”. وتقول، \”النسوية مثل المحيط، سائلة، وقوية، وعميقة في شكل لانهائي، ومثل موجات المد والجزر لا تبقى النسوية هادئة أبدًا\”.
لكنها تعود وتؤكد أنها ليست على عداء مع الرجل أبداً، وأن كلمة \”نسوية\”، تعني لها الحالة الوحيدة لمقاومة النظام البطريركي، وإنقاذ ضحاياه من النساء والأطفال.
د.لنا عبد الرحمن
independentarabia