يقوم استقراء البنية الدلالية في رواية \”حفرة إلى السماء\”* للكاتب السعودي عبدالله آل عياف، على تحليل المعنى الذي يطرحه المضمون الحكائي وتعيين التناظرات والتعارضات المتعددة التي يقدمها في معانيه المحورية، إذ هناك محور جوهري ترتكز إليه بنية الرواية ككل، يؤدي فيه المكان دورا محوريا، إنه قرية ( مجهرة)، حيث تجتمع الأضداد والمفارقات عبر شخصيات أهلها، يصفها أحد الشخوص قائلا : \”لكل قرية مجنونها إلا مجهرة، كلها مجانين\”. فهل ينطبق هذا الوصف حقا على أهالي مجهرة ؟ تبدو القصص والأساطير ساكنة في تلك القرية، كما تسكن عادةً الحكايات السحرية في القرى البعيدة عن المدن، تلك الموصولة مع العالم الخارجي بجماعة من الرائحين والغادين إليها، حاملين الحكايا عما وراء البحر والنهر والمدن البعيدة التي تسكنها النساء الفاتنات. وبدا غياب التمثيل الكياني لمدينة بعينها، أن جعل الصراع الدائر يتكثف في النص مكانيا داخل القرية، وبين أهلها.
تتنوع الرؤئ نحو مجهرة وتختلف بين الأبطال، فمن أساطيرها أن أحد الشخوص\”حين فتح الطبيب الكافر جوفه بمنشار ليعالجه لم يجد قلبا بصدره\” وذلك بسبب سوء سريرته، في المقابل \”ثمة مكان بها يقصده الناس للعلاج بمساعدة الجن\”، أما الأستاذ الشريد ظافر الذي يأتي إليها هاربا من بلدته فيرى أن \” مجهرة تستطيع تحرير ساكنيها من مخاوفهم\”، وبين الأزقة، والأبواب، مع الأصوات والروائح تختبئ الحكايات، وكأن الأفراح والأتراح في مجهرة لا تعدو إلا أن تكون دخانا ممتدا يمزج بين الحقيقة والسراب.
بنية النص الروائية، مضمونا:
اختار الكاتب أن يفتتح روايته مع لعبة سردية مشوقة، تبدأ الرواية مع الفصل الأول \”مغادرة ووصول\” بجملة : \” أمام رجال مجهرة، وآخرين قدموا من القرى المجاورة، كان على تيماء أن تختار: إما أن تتعرى هي أو أن يتعرى والدها الشيخ الكبير\”. يتابع القارئ تيماء، التي تحمل صفات نفسية تختلف عن سائر نساء البلدة \” تنظر إلى السماء دائما، ولا تنكسر أمام أحد، ويظل السؤال حاضرا : ما الذي أجبرها على التعري؟ مشهد غامض لا يتكشف مغزاه كله إلى عند وصول القارئ للصفحة \”120\”، إذ تعتمد الرواية على التقطيع السردي ضمن الفصل لواحد، إلى جانب لعبة المرايا المستخدمة مع الشخصيات كلها، فتعكس كل شخصية حكايتها وحكايات أخرى تتقاطع معها كاشفة رؤيتها للمكان والزمان والشخوص.
يتجلى التناقض المبثوث منذ الصفحة الأولى في ثنائية : الولادة والموت، وفي توظيف هذه الثنائية بتحولها إلى عملة واحدة بوجهين. موت الجد سالم ودفنه، وولادة حفيده غيث في مقبرته إنما يمثل الحدث الأكثر عمقا ومحورية في النص، إذ سوف نجد له انعكاسات أخرى في حياة الأبطال جميعهم في علائقهم المختلفة مع الواقع وفيما بينهم، وليس لنا إلا أن نضع أي شخصية ضمن هذا التوزيع الأولي الأساسي لهذه الثنائية، ثم تفنيد ماهية دورها في الحكاية لنجد لها تناظرا واضحا مع المعطى الرئيسي. لو أخذنا مثلا نموذجيا على ما نسوقه فإنه كفيل بالكشف عن هذا التناظر الدلالي:
تيماء: ينفتح النص مع تيماء ابنة الشيخ سالم، التي تعود من زيارة صديقتها سوير لتجد والدها ميتا والرجال يقومون بدفنه، تندفع تيماء إلى المقبرة هاجمة على كفن والدها، فتداهمها آلام الولادة فتضع ابنها غيث على تراب القبر.
سوير زوجة فرج : وإن كانت تمثل عنصر الحياة والاستقرار عبر البيت وانجاب الأبناء، فإن زوجها فرج في ميله إلى الرحيل والتنقل، ثم نهايتهما معا على قارعة الطريق، يعطي ذلك الشكل الحاد لحضور الموت، الذي يوقفه وجود فاطمة ابنة سوير في عهدة تيماء، ورمزية استمرارها في الحياة، بل ومنحها دورا محوريا في السرد.
حمود : ترسم تجربة حمود مع معاناة الانتقال، مخاض التحول والولادة من جديد، يغادر مجهرة نحو البحار، يصير البدوي النوخذة، تشكل هذه التجربة بكل ما فيها مرحلة ثانية من اختيارات الأبطال للمراوحة في المغادرة والعودة ( الولادة والموت)، دون اكتمال التجربة لسبب أو لآخر، يضطر حمود أو طافي أن يرجع لمجهرة طوعا، ويموت فيها.
هكذا يمكننا أخذ أي شخصية في النص، وتحليل بنيتها الحكائية ووظيفتها ضمن المعطى الدلالي الرئيسي، حيث يمكن فهم مواقعها وتصرفاتها وتحولاتها في إطار الهيكل الكلي للرواية
مرايا السرد
تكونت الرواية من إثني عشر فصلا، وفي كل فصل ثمة عنوان يشير إلى مضمونه، حسب الشخصيات الرئيسية التي يمنحها الكاتب حق سرد حكاياتها، إذ يرتكز النص على وصل بؤرة السرد بالشخصيات، مما جعل من كل شخصية تُشكل مُكملا أساسيا لسرد الأخرى، هذا بالتوازي مع استخدام لعبة الايهام السردي في تأجيل كشف محورية بعض الشخصيات ودلالاتها ( حمود، فاطمة، غيث) إذ يمثل حمود الشخص المتمرد على كل قوانين مجهرة، مغادرا نحو العالم البعيد، ماضيا بين البر والبحر بحثا عن ذاته، أما فاطمة ابنة سوير فيتكشف في الفصل الأخير أنها من تقوم بعملية السرد والكتابة عن مجهرة التي تغيرت كثيرا وأصبحت مدينة يُقيم فيها خليط من العمال الأجانب..أما غيث فقد أراد الكاتب عبره تقديم نموذج الصبي المختلف عن أقرانه، الذي يطرح أسئلة مغايرة مثل : \” أين يذهب الدخان؟ هل للشيطان وجه مثلنا؟ ما لون الماء؟ كم عدد النجوم؟\”، هذا النموذج من الشخصيات الذي يتواجد تقريبا في كل قرية، ويكون متلهفا للمعرفة، محبا للاكتشاف وللتحليق بعيدا عن حدود المكان الضيق. في المقابل ثمة شخصيات نمطية مثل ( الشيخ عيسى)، يجسد الشيخ النموذجي الذي يعالج أهل القرية بالطب العربي القديم عبر الأعشاب والكي والأدعية والتمائم، ورغم سلوكه الذي يوحي بالعدل وميله لأنصاف الضعفاء إلا أنه في اللحظات الحاسمة يعود لانحيازاته القبلية والشخصية، وهذا يتجلى حين يرفض أن يمنح غيث السلطة على المقبرة لأنه لا ينتمي لآل صميح. يقول: \” ما راح أكون الرجل اللي طلعت في وقته المقبرة والقيام على أمورها من آل صميح وراحت لآل جبر\” ص 194.
الطبيعة الكونية
تحضر العناصر الكونية الأربعة ( الماء، النار، التراب، الهواء)، وتتجسد تأثيراتها في حكايات سكان مجهرة، ويكون لها البطولة في قبضها على مجريات الحياة، أو في وضع ختم النهاية لحيوات الشخوص. إن طبيعة النفس الإنسانية تتداخل مع الطبيعة الكونية وفي حال انسجامها يحل التوازن في معاش الانسان، فيما يؤدي اختلالها إلى شتى ضروب الأهواء والانهيارات. يضع الكاتب وجوها متناقضة مقابل بعضها بعضا في تحد سافر للحقيقة الغائبة، التي تظل مبهمة وغامضة، مثلا : إذا كان الأستاذ ظافر، المدرس الغريب الذي يحل بالقرية يمثل صوت العقل الحاض على العلم والمعرفة، فإن احتراقه وموته بنيران باغتته وهو يصبغ غرفة المكتبة، يعبر عن تلقي العقل لهزيمة واضحة، إذ تظل شخصية ظافر محاطة بالغموض منذ البداية وحتى النهاية، حتى حين يتم ابلاغ والده بموته، لا يأخذ جثة ابنه المحترق، بل يطلب منهم دفنه في مجهرة. فهل كان ظافر يتلقى العقاب على فعلة ما ؟ هل كان منبوذا لايمانه بالعقل؟ لتحريضه على العلم، أم لأسباب أخرى لم تتبد جهرا؟ يقول عن نفسه : \”أنا ظافر، أنا الشقي…أنا من هرب من العالم ولاذ بمجهرة\”؛ ثم يجد من يقدم له الرأفة المتجسدة في شخص تلميذه الصبي الصغير غيث، الذي أحب حكايات المعلم وحزن لفراقه حزنا مريرا، جعله يغامر بأن يفتح قبره الواقع عند الأطراف وينقل جثته إلى منتصف المقبرة، ظنا منه أن اختلاف المكان سيكون أكثر راحة لمعلمه.
أما البحر ورمزية الماء، فيوجد لحضوره عدة تمثلات، بدءً من الصلة بين القرية والساحل الذي يجتذب أبناءها، فيغويهم بنسائه الفاتنات، كما حدث مع \”فرج\”، أو أنه يجذبهم إليه ويحولهم إلى نوخذة ( حمود)، الذي غاب عن قريته لأكثر من خمسين عيدا، وحين عاد إليها وفي لحظة وصوله يتقاطع مصيره مع الصبي (غيث) الذي أراد تعلم السباحة فألقى بنفسه إلى ماء النباعة، الذي جذبه عميقا، وكاد يغرق لولا أنقذه حمود الملقب بطافي لأنه نجا من كل أهوال البحار. وللمفارقة نكتشف أن طافي كان نزوله للماء ذاك هو الأول في حياته، فلا هو وصل إلى قاع البحر كما قيل عنه، ولا أمسكته الجنية من كعب قدميه كما شاعت الحكايا، طافي عاش حياته كلها على ظهر السفينة، لم يبلل ثوبه بالماء، وهنا تكمن المفارقة. لنقرأ :\” وحده النوخذة الجيد لا يحتاج إلى تعلم السباحة. هل ستصدق أيها الصبي العجيب أن أول نزولٍ لي تحت الماء كان بسببك! ستون عاما لم يغمرني الماء فيها. نجوت من البحار والخلجان، ولم يمسسني الماء. وهأنذا أقدم على تعلم السباحة وربما الغرق برضاي من أجل صبي مريض بالماء\”ص227
لكن النص يقدم علاقة أخرى مع الماء عبر حادثة غرق شرعاء البنت البكماء، التي تزوجت من شيخ مسن وأنجبت منه تيماء، وما أشيع عنها من أساطير أن الجني الذي ربط لسانها هرب ساعة غرقها، بينما سفيان بائع الأقمشة قال أنه شاهدها تبيع الشاي في أحد أسواق بومباي، لكن وحدها تيماء ظلت تصدق أن أمها غرقت، وظلت تخاف البحر وتحذر ابنها غيث من أن الطيور الجارحة ستنهش لحمه كما حدث مع الصبي الذي حاول النجاة بعد غرق السفينة. تقول : \” وحده الغرق يجعلك ترحل وحيدا، مهما يكن عدد الغارقين معك، هل غاص جسدها إلى القاع؟ هل نهشته..؟ يبتلع الماء الناس كما يبتلعهم النسيان\” ص 98
وتبدو مقولة: \” من التراب وإليه نعود\”، متجسدة في انفتاح الرواية مع الفصل الأول \” مغادرة ووصول\”، وإذا كان البشر جميعا أتوا إلى الحياة من طريق واحد هو رحم الأم، فإن لحظة القدوم تلك تختلف في موضعها من شخص لآخر. أراد آل عياف لضم الحياة بالموت في اختياره أن يولد الصبي غيث على تراب مقبرة جده سالم، مفارقة عجيبة أخرى سوف تظل تسم حياته كلها، فلا انجذابه للماء، ولا رغبته بالسفر بعيدا نزع من داخله ارتباطه بالمقبرة، واحصائه عدد القبور فيها، وتآخيه مع أمواتها وقبورها وحنوه عليهم.
ويحضر أثر الهواء والهوى مع شخصية \”فرج\”، الذي وقع في غواية قيادة السيارة، التي يجد فيها ضآلته التي تحمله عبر الطرقات إلى أماكن يعرفها ويجهلها، فرج الذي شرع قلبه باحثا عن الملذات المتخيلة مع نساء الساحل، مُدبرا عن الحياة المستقرة مع زوجته سوير في مجهرة، تهدأ أنواء العواصف في داخله، مواجها مصيره المحتوم بعد أن قرر تحقيق حلم سوير باصطحابها لزيارة الكعبة الشريفة، ويكون عليه مواجهة قدره المحتوم.
الحضور النسوي
يمثل الحضور النسوي في الرواية، تجربة وعي جديد، وولادة جديدة، حيث تبدأ الأحداث مع تيماء، وتنتهي مع فاطمة ابنة سوير. يحمل هذا الحضور في طياته اضطراب العلاقة مع الآخر ( الرجل)، يتجلى هذا بداية مع شخصية تيماء وارتباك علاقتها مع غيث ابنها، إذ رغم كونه ابنها الوحيد إلا أن صلتها به تظل مشوبة بسوء الفهم الذي يصل إلى الشك بجوهر الحب بينهما. لكن قوة الحضور النسوي عند تيماء يتمثل في انتهاء مهنتها في الحياكة، ليحل مكانها زراعة النخل في أرضها \” مبروكة\”، ومنح كل نخلة اسم شخصية في النص. وفي صراعها مع رجال القرية كي تتمكن من الحصول على الماء، بعد أن حبسوا الماء عن أرضها. ارتباك العلاقة مع الآخر في حياة تيماء يتمثل أيضا مع زوجها الذي يكاد يغيب حضوره، بعد أن اختار الرحيل عن القرية، أيضا في اشتباك مشاعرها المتناقضة نحو الشيخ عيسى.
لعل في اختيار الكاتب وضع النهاية على لسان فاطمة إشارة للدور الحيوي الذي لعبته المرأة في استكمال الدورات الحياتية في تشكل الوعي. وإن كانت الراوية (فاطمة) تتقدم في هذا الموقف لتحيل القارئ إلى أحد خيارين، إما اعتبار نفسه متلقيا وحسب، أو عنصرا فاعلا ومتخيلا لما جرى في مجهرة، وفي كل القرى الأخرى التي مستها الحضارة مسا كبيرا فأعادت تشكيل بنيتها، إذ يكفي أن نقرأ في الصفحات الأخيرة من الرواية، حين تقول فاطمة : \” تعلمت من أمي أن الأحزان تتوالى، ومن أبي أن الفرح ينتصر أخيرا، ومن تيماء ألا أنحني أمام أحد أو لشيء…سمعت أن مجهرة تغيرت كثيرا بعدي…كل شيء تغير إلا نخلتي، وعندما تعطي مجهرة لنخلتي اسما آخر سترحل ذكراي أنا أيضا. ووحدها مجهرة ستبقى، لأنها تنسى.\”
د.لنا عبد الرحمن
مجلة الفيصل – يوليو 2022