لا يمكن للرواية أن تقف بعيداً من الأزمات والحروب، إنها إحدى الوسائل التي تتخذ مساراً ابداعياً للتعبير عما يحدث، بيد أنها أشد تأثيراً لأن حضورها يمتد عبر الزمن ويحكي ما حدث للأجيال المقبلة.
الكاتبة البريطانية آلي سميث الحائزة \”جائزة أورويل\” والتي تعد أبرز روائية بريطانية معاصرة، ترى أن الرواية فن قادر على اتخاذ موقف راديكالي واضح من الحرب، وتعتبر سميث أن التحولات التي تحدث حولنا سريعة جداً، بدءاً من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتشار \”الديماغوجيا الترامبية\” ثم ظهور وباء \”كوفيد-19\”، والآن غزو بوتين لأوكرانيا.
كل هذا يتطلب من الأدباء الإحاطة به للكتابة عما يشاهدونه ويسمعون عنه، وهذا ما فعلته الكاتبات منذ زمن الحرب العالمية الأولى، وتستدل الكاتبة بوجهة نظرها هذه بكاتبتين هما فيرجينا وولف وكاثرين مانسفيلد، اللتان كان لهما حضور إبداعي مميز وحساسية في تناول التحولات التي تحدث في الأزمات والحروب، ونجد صدى لأعمالهما الإبداعية في كتابة سميث.
حال أمة
إن قارئ روايات آلي سميث يتقبل بسهولة انشغالها بما يحدث في العالم ومراقبتها للحرب في أوكرانيا، ففي كتابتها ثمة انهماك حقيقي بتشريح ما يحدث من حولها، وقد وثقت روايات سميث جزءاً حديثاً من روح القرن الـ 21، مازجة بين الدعابة والانتقاد الفكري اللاذع الذي يميز جميع أعمالها.هذا ما يظهر بوضوح في روايتها \”الخريف\” التي تنتمي إلى \”رباعية الفصول\”، فقد كتبت عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكان كتابها أول رواية تناولت هذا الحدث المؤثر في حياة البريطانيين، تلتها رواية \”الشتاء\” متوقفة عند عدائية ترمب، وأتبعتهما بمجلدين آخرين هما \”الربيع\”، ثم أصدرت عام 2021 \”الصيف\”.
الروائية آلي سميث (دار بنغوين )
تعد رباعية الفصول مشروعاً عن تحولات الأمة البريطانية، وتقسيمها يشبه مقطوعة موسيقية، كما هي الحال مع مقطوعات فيفالدي، فالرواية متداخلة في الحكايات والتواريخ، وكما الطبيعة تتداخل فصولها وتشتبك، وهكذا تكتب سميث رباعيتها عبر تداخل مرح لا تعوزه الرشاقة السردية والفطنة في دمج الوقائع والاختيار بينها. ثمة عناصر تظهر في رواية وتتكرر في أخرى. تموت بعض الشخصيات وتنجرف بعيداً، ويعود بعضها الآخر للظهور مثل دانيال، الرجل المسن الذي تم تقديمه في الخريف وعادت ذكرياته عن أحداث مؤلمة في الماضي إلى الظهور من جديد، لتعكس الحاضر في \”الصيف\”.
تندمج في كتابة سميث القضايا الجدلية بالشعر والأفكار حول الطبيعة والفنون، بحيث تشكل الكاتبة إطاراً يمكن من خلاله تشريح بعض المواضيع الأكثر أهمية في عصرنا، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومأساة الأشخاص الذين نزحوا بسبب الحرب والأخبار المزيفة وقضايا المناخ إلى جانب جائحة كورونا.
المقطوعة المرافقة
في عملها الروائي الأحدث الصادر عن \”هاميش هاملتون\”، \”Companion Piece\” تبدأ الأحداث مع الفنانة التشكيلية ساندي التي تعاني كثيراً بسبب الإغلاق العام المفروض خلال وباء كورونا، فوالدها دخل المستشفى إثر نوبة قلبية مما يضطرها إلى أخذ كلبه للاعتناء به، فيصبح الكلب رفيقها في العزلة. تزور والدها كلما تمكنت من ذلك وتعتمد على لطف الممرضة التي تبقيها على اطلاع حول تطورات حاله الصحية.
إن شخصية الفنانة المعروفة التي تظهر في كل أجزاء \”رباعية الفصول\” تتخذ هنا موقع البطولة، مع ساندي الفنانة التي تقوم بالرسم وكتابة قصائد فتتداخل كلماتها مع التشكيل بحيث لا يستطيع أحد قراءتها. إنها الطريقة ذاتها التي تكتب بها سميث رواياتها بالغموض والتشظي الزمني. ساندي لا تفعل هذا من أجل المال بل حباً في الفن، لذا يرى والدها أن كل ما تقوم به من فن ميؤوس منه ويذهب هباء، وترد عليه ساندي قائلة \”المال ليس هدفي على الإطلاق\”، وربما تجدر ملاحظة التوجه الفكري عند سميث التي تنتقد تسليع الثقافة عبر بطلتها الرسامة وما تتعرض له في المجتمع الرأسمالي، بحيث تضطر لممارسة مهن دنيا تحظى من خلالها بالحد الأدنى من الأجر، فقط كي تتمكن من تغطية نفقاتها الحياتية.
فجأة وخلال عزلة كورونا المنهكة للأعصاب، تعود من ماضي ساندي الجامعي امرأة تدعى مارتينا بيلف تعمل في أحد المتاحف، وكانت قد تجاهلت ساندي في ما مضى، لكنها تعود الآن إلى حياتها بقوة عبر اتصال هاتفي ودود تتحدث فيه مارتينا عن سفرها رفقة إحدى اللوحات القيمة، ثم عن عودتها واحتجاز رجال الجمارك إياها لمعرفتهم أنها تحمل جنسية مزدوجة، يقول لها أحدهم \”ألا يكفيك بلد واحد؟\”.غياب مارتينا عن حياة ساندي ثم ظهورها بقوة مرة أخرى يمكن اعتباره إحدى مزايا سميث الأسلوبية في التقطيع الزمني الذي يحوي الغياب ثم التواصل في أماكن وأزمنة مختلفة.
تنقسم الرواية إلى جزأين وإلى زمنين مع تقنية الحكاية داخل الحكاية، إذ بالتوازي مع شخصية ساندي واضطراب وجودها الفني والاجتماعي، هناك قصة فتاة شابة من العصور الوسطى تتمرن في حانوت حداد وتعاني فقد أسرتها ورب عملها خلال مرحلة انتشار الطاعون، يرافقها طائر كروان بما تحمله رمزية حضور الطائر في الرواية.
يتجاذب النص بين الشخصيتين مفهوم التشرد ودور الأسرة في وقت العزلة وانتشار وباء كورونا، وكما تحضر في \”رباعية الفصول\” قصائد شكسبير وأشعار ريلكه وكلمات كاثرين مانسفيلد، ففي هذه الرواية نجد أيضاً أقوالاً لشاعر السكون والعودة ديلان توماس إلى جانب جون كيتس ومقولاته عن رغبته المطلقة بالعيش في الفن.
ازدواجية المعنى
يقف القارئ أيضاً على ازدواجية المعنى الذي يتكرر في كتابة سميث دائماً، وهذا ما نجده في العناوين الفرعية خلال السرد مثل \”السطح مقابل العمق\” و\”الحقيقي في مواجهة الزائف\”.
هذا الازدواج يحضر أيضاً في روايتها التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الـ \”مان بوكر\” عام 2015، \” كيف تكونين الاثنتين معاً؟\”، التي تقدم من خلالها حكاية شابة مراهقة تفقد والدتها، بالتوازي مع قصة رسامة من عصر النهضة في القرن الـ 15.
سميث مأخوذة بالعمل دائماً مما يؤدي إلى انهيار الحدود الفاصلة بين الأزمنة والكشف عن أن المشكلات التي نعتبرها جزءاً كبيراً من عصرنا، مثل الاستعداد للوباء والهوية الجنسية والمساواة في مكان العمل، متجذرة بعمق في تاريخنا الجماعي منذ الماضي حتى الآن، ولعل العبارة التي تقولها ساندي في الفصل الأخير من الرواية \”النور والظلام يتناوبان\” توجز رؤية سميث للرواية والحياة، حين ينتهي مآل بطلتها إلى الابتعاد من التأملات الطويلة والتحليلات المعقدة، لتنحو نحو الإيجاز واقتفاء أثر الحياة المحتفية بالتفاصيل البسيطة، كما هي العلاقة بين الفتاة الحدادة وطائر الكروان، أو بين ساندي نفسها وكلب والدها.
سميث كاتبة تتميز بصوت إبداعي يتمتع بالحكمة والإنسانية والسخاء النافذ لرؤية الطبقات الإنسانية السحيقة، فهي تحتفي بالمفارقة والطبيعة الدورية للموت والولادة والبدايات والنهايات، وأرادت في هذا العمل الذي صدر في السنة الثانية من انتشار الجائحة ايصال رسائل ضمنية وصريحة للتأكيد أن الترابط الاجتماعي يمكن أن ينتصر على السخط والعزلة والانفصال.
يذكر أن روايات آلي سميث صدرت في ترجمات عربية عدة، فقد قام الشاعر التونسي ميلاد فايزة بترجمة روايتيها \”الخريف\” و \”الشتاء\”، وصدرت ترجمة روايتها الأولى \”فندق العالم\” عن \”دار العين\” في القاهرة بترجمة الكاتبة أميمة صبحي، وصدرت ترجمات لرواياتها عن \”دار المدى\” أنجزها الكاتب أسامة منزلجي.
لنا عبد الرحمن
independentarabia