الصداقة الأنثوية تجذب الروائيات بما تحمل من تضحية واستقلال

\"\"

في روايتها \”لا مالناتا\”، تتخذ الكاتبة الإيطالية الشابة بياتريس سالفيوني، من علاقة الصداقة بين فتاتين، المحور الرئيس لمضمون هذه الرواية التي تمضي فيها على خطى الكاتبة الإيطالية العالمية المؤثرة إيلينا فيرانتي، التي أسست لهذه التيمة مع روايتها \”صديقتي المذهلة\”، التي ألحقتها بجزءين آخرين، وهي لا تزال مجهولة ومتوارية خلف هذا الإسم.

ويبدو أن سالفيوني، لم تكن الكاتبة الوحيدة التي تأثرت بفيرانتي، فقد سبقتها في العام الماضي الكاتبة والفيلسوفة الإيطالية سيلفيا أفالون لتضع رواية بعنوان \”صداقة\”، تدور حول علاقة إليسا وبياتريس، وكيف بدأت صداقتهما وهما في الرابعة عشرة من العمر، تسكنان بلدة صغيرة على ساحل توسكانا. عندما تلتقي الصديقتان، يصطدم عالمان مختلفان تمامًا: إليسا غاضبة ومتمردة؛ بياتريس عقلانية ورصينة، وتعيش ضمن إطار عائلي مستقر. إليسا لديها عائلة مضطربة غير منسجمة، تكافح من أجل إظهار المودة؛ وبياتريس تحظى بأم يقظة لدورها كأم وأب ناجح ومنزل مثالي. ولكن ثمة شيء واحد مشترك بينهما، الوحدة؛ بصفتها أكثر المشاعر إرباكاً وازعاجاً بالنسبة إلى الفتيات في سن المراهقة. إليسا تبدو مرفوضة اجتماعياً، لكن بياتريس اختارت عزلتها بنفسها، لإحساسها بأن أقرانها في هذه المدينة الصغيرة غير مناسبين لها. وجراء العديد من المواقف يحصل التضامن الأخوي بين الفتاتين، وتعيشان معاً لحظات الاكتشاف الأولى للحياة، الحب الأول، فقدان العذرية، الألم من الفقد والخذلان. ثم بعد ثلاثة عشر عاماً، أصبحت بياتريس واحدة من أشهر الوجوه على هذا الكوكب، لديها الملايين من المتابعين على صفحات التواصل الإجتماعي، تعيش الحلم الذي أرادته. في هذه الأثناء ، تُركت إليسا لتنقب في الماضي وتتذكر بحثها عن المعنى. يحضر صوتها مهيمناً على الرواية لتسرد واقعها الحالي، في دورها الجديد كأم.

تناولت الرواية مشاعر إنسانية محتشدة عن الخوف، والهجر والخسارة، والقلق من التحديات التي تطرحها الحياة، وكيف تؤثر الصداقة العميقة بين البطلتين على رؤيتهما للحياة، وعلى اكتشاف العالم والذات.

صداقة أنثوية

على الرغم من وجود فروق على مستوى المضمون الحكائي، والاختلافات الزمنية بين الروايات الثلاث: \”صديقتي المذهلة\”و\”الصداقة\”و\” لامالناتا\”، إلا أن البؤرة المحورية تبدو مشتركة. وضعت إيلينا فيرانتي روايتها \”صديقتي المذهلة\” في الخمسينيات في نابولي، أما سيلفيا أفالون فقد اختارت أن تمتد روايتها من الماضي القريب حتى الزمن الحالي في عصر شبكات التواصل الإجتماعي. واختارت بياتريس سالفيوني أن تدور أحداث روايتها في إيطاليا الفاشية عام 1936،  في \”مونزا\” مدينة تقع شمال شرق ميلانو. ولكن يظل المشترك بين هذه الأعمال الثلاثة، فكرتي الصداقة الأنثوية القوية والتحررية، بين فتاتين مراهقتين، والانطلاق الجذاب والمغامر خلال فورة الصبا، المليئة بالبراءة والأحاسيس الفطرية المفعمة بالحياة.

لعل هذا التناص الفكري بين الكاتبات، يدفع للتساؤل عن السبب في جذب تيمة الصداقة الأنثوية الأخوية، للكاتبات الايطاليات في رواياتهن: هل يكمن الأمر في ذاك النجاح المدوي لروايات ايلينا فيرانتي، مما شجع بعضهن للمضي على خطاها؟ ولكن مع كشف الأسماء والوجوه، على النقيض من فيرانتي المصممة على أن تبقى مجهولة الهوية حتى الآن.

\"\"

تجاذب الأضداد

في العودة للحديث عن الرواية الأحدث \”لا مالناتا\” التي يمكن ترجمتها ب \”المولودة السيئة\”، وضعت بياتريس سالفوني بطلتيها مادالينا وفرانشيسكا، في إطار مرحلة زمنية حرجة، خلال الحكم الفاشي لموسوليني قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية. تحاول كلتاهما مواجهة صعوبات قدرية تجدان نفسهما تخوضان غمارها، فتسعى كل منهما للبقاء على قيد الحياة وتحقيق النمو النفسي والمعرفي وسط أسرة مفككة. تبدأ الرواية بطريقة كلاسيكية إلى حد ما، فالبطلة الساردة هي فرانشيسكا، فتاة صغيرة، من خلفية اجتماعية ميسورة، تصادق فتاة أخرى، تعيش على أطراف البلدة؛ أدنى منها اجتماعياً ولكنها أكثر اندفاعاً ومرحاً، مفعمة بالحيوية في الجسد والروح، تستمتع بوقتها، وتُعبر عن نفسها بصوت عالٍ، كاشفة  عن كل ما تفكر به.

هذه المزايا جعلت فرانشيسكا تراقب مادالينا بنوع من الغبطة والتمني في أن تشاركها أوقات المرح الحلوة. ففي كل يوم أحد، تذهب فرانشيسكا إلى الكنيسة مع والديها؛ تراقب خلال سيرها بتكتم ثلاثة مراهقين، ولدين وفتاة. تشاهد مادالينا وهي تلعب مع الولدين بالقرب من ضفة نهر \”لامبرو\”، يحاولون اصطياد السمك وسرقة السحالي العالقة بين مخالب القطط. بعد مرات عدة من اللقاءات الصامتة بين الفتاتين، يبدأ الحوار الذي سوف يؤدي إلى نشوء صداقة عميقة بينهما.

تعاني مادالينا، التي تُلقب ب\”لا مالناتا\” (المولودة السيئة) من اعتبارها سبباً لجلب الحظ السيئ إلى أسرتها، بسبب موت شقيقها الصغير إثر سقوطه من النافذة. حينها سرت شائعات مجنونة عن كونها هي التي تسببت بدفعه. ومنذ ذلك الحين صار الجميع يتجاهلها بتعمد، إلى حد دفعها إلى ترك المدرسة.

في التوازي الحياتي بينهما، فقدت فرانشيسكا أخاً بسبب شلل الأطفال. وهي أيضاً نشأت ضمن لامبالاة مطلقة من والدتها. لذا تنبهر بفتاة مثل مادالينا، التي تجابه الحياة بقوة آسرة، لا تملكها فرانشيسكا. تكتسب مادالينا الثقة بنفسها أكثر، بعد تقرب فتاة مثل فرانشيسكا منها، تأخذها إلى مستوى جديد وتساعدها على الإنفتاح على واقع آخر. تختلف البطلتان اختلاف الليل والنهار، واحدة تنتمي إلى وسط اجتماعي برجوازي، فيما الأخرى آتية من القاع. واحدة منطلقة متحررة، والأخرى متحفظة حذرة. ولكن تجد الواحدة في الأخرى جانباً لا تمتلكه، وترى أنها بمجرد وجودها معها تعوضها عما أخذت منها الحياة، من صلات يُفترض وجودها، ضمن أفراد الأسرة. لكن هذا لا يحدث، ويؤدي الجوع العاطفي عند الفتاتين إلى الإقتراب نفسياً أكثر، بحيث ترتكبان الأخطاء وتنموان وتتعلمان.

مع صديقتها الجديدة، تتعلم فرانشيسكا الثقة بقراراتها والإنصات إلى قلبها والتحرر من القوانين التي تفرضها والدتها، تكتشف أن أخلاق طبقتها البرجوازية تهتم بالمظاهر فقط. لذا تتحول رؤيتها نحو مسار آخر، وتسعى إلى الحرية. تواجه هيمنة الرجال، وتتمرد محاولة التخلص من أغلال عائلتها.

أما مادالينا، أو لا مالناتا، المتهمة بكل الشرور وبأنها ساحرة ومشعوذة، فتخفي بداخلها الدراما المؤلمة المبثوثة في حياتها منذ الصغر؛ تكشف عن نفسها تدريجاً أمام صديقتها الجديدة فرانشيسكا، التي  تهرب من حياتها اليومية السلسة، لتذهب معها في مغامرات عديدة. تتعرض صداقتهما لاختبار إثبات قوة  الصلة الروحية بينهما، ومواجهة العديد من التقلبات والانعطافات في صداقتهما، قبل الوصول إلى قيم قوية من الولاء والتضامن.

\"\"

توترات الحرب

هذه الصداقة تمر عبر توترات الحرب، حين يهجر الرجال البلاد. يذهبون لغزو إثيوبيا وخلال هذه المرحلة الزمنية يكتشف الثنائي الودود المتكاتف أهمية الحرية. كان هذا المفهوم مرفوضاً في ذلك الوقت، إذ يجب على المرأة أن تعطي نفسها للرجل، وتخضع وتصمت وتصلي كما يقول موسوليني.

حرصت الكاتبة خلال السرد على نقل تفاصيل الحياة اليومية، خلال مرحلة زمنية مهتزة. فالسياق التاريخي هنا يُظهر ثِقل العقيدة الفاشية في الحياة اليومية للإيطاليين، والبون الفكري والإجتماعي بين أولئك الذين يتبنونها، لدرجة إعلان حبهم لـ \”موسوليني\”، ولقبه \”أبو الوطن\”، وأولئك الذين يتمردون على ديكتاتوريته، خاصة بعد أن يعقد اتفاقًا مع هتلر. بدت هذه الفقرات مهمة للقراء لكونها تكشف رعب الإيطاليين من فاشية موسيليني التي لم يتم تناولها باستفاضة، أدبياً وفنيا ً، كما هو الحال مع الفاشية الألمانية.

تحدثت سالفيوني بسلاسة عن نزهات الفتاتين عبر الشوارع المرصوفة بالحصى،عن العلاقة بين الجيران، عن المدرسة، عن الطبقة البرجوازية وكذلك الطبقة العاملة، عن السياسة، وتأثيرها على العلاقة بين الرجال والنساء. إنها لمسات صغيرة مبثوثة كي تشغل مساحة معينة من السرد، وتعطي حياة ملموسة وواقعية لفرانشيسكا ومادالينا.

يمكن اعتبار هذه الرواية من الأعمال التي تحمل سمات إنسانية وعاطفية مشتركة، تراعي أعمق معنى لكلمة صداقة؛ إذ يمكن للصداقة  أن تكون قوية وخطيرة مثل الحب. أرادت الكاتبة أيضا من خلال بطلتيها أن توثق ما واجهته النساء على أعتاب الحرب العالمية الثانية، سواء مع روح فرانشيسكا، بحساسيتها ومخاوفها وهشاشتها، وروح مادالينا الأكثر صلابة، ورغبتها في أن تكون جميلة وأنثوية. كل هذا مضى بالتوازي مع نضال النساء للتصالح مع أنفسهن، وإصرارهن على النجاح، الذي يتطلب منهن إدراك أهمية الحب الكبير الذي تحتاجه كل امرأة كي تكون متحققة، وهو \”حب ذاتها\”.

لنا عبد الرحمن 

independentarabia