الوعي والتطور البشري

\"\"

طالما شغلتني قضية الوعي على مستوى البحث الفلسفي، ولكنها أصبحت تشغلني أيضا على مستوى التفكير في شؤون الواقع وأحوال الحياة الإنسانية، فيلَّح عليّ السؤال المتجدد على الدوام: أيهما يغير العالم.. الوعي أم الواقع؟ وهنا لا بد من التنويه إلى عدم الترادف بين مفهوم «التغير» ومفهوم «التطور»: فالتغير قد يكون إلى الأفضل أو الأسوأ، لكن التطور يعني الارتقاء إلى حال أفضل أو -على الأدق- إلى مستوى أعلى في الرتبة، وأنا أستخدم هنا أحيانا مفهوم التغير بالمعنى الذي يكون فيه التغير مؤديا إلى حالة من التطور والارتقاء.

والواقع أن السؤال الأساسي السابق قد سعى كثير من الفلاسفة إلى الإجابة عنه؛ فرأي هيجل في مقولته الشهيرة: «إن العالم لا يتغير بذاته، وإنما الوعي هو الذي يغير العالم». ويترتب على هذا أنه لا يمكن تصور أي تطور يحدث في الواقع في مرحلة زمانية ما، بمنأى عن تغير يحدث على مستوى الوعي الإنساني نفسه في تلك المرحلة، فلا يمكننا تصور إمكانية حدوث أي تطور في واقع الناس من دون تطور في وعيهم السياسي والعلمي والثقافي بوجه عام؟ وفي مقابل هذا الموقف، يتخذ ماركس -ومن ساروا على منهجه- موقفا مضادا، إذ رأى أن الواقع هو الذي يغير العالم، وهذا الواقع يتمثل عنده في البنية التحتية للمجتمع التي تشمل الثروات الطبيعية وقوى الإنتاج وعلاقات الملكية، وهو أيضًا ما يؤدي إلى إنتاج البنية الفوقية ممثلة في الوعي الذي يشمل العلم والمعرفة والثقافة وسائر القيم. ولهذا فقد ذهب ماركس إلى القول بأن «المنهج الجدلي عند هيجل يقف على رأسه، وعلينا أن نقلبه رأسا على عقب حتى يعتدل».

والحقيقة أن هذا الموقف الأخير يدعمه تاريخ طويل من الفكر الذي أرساه الفلاسفة الواقعيون والتجريبيون، فقد ذهب هؤلاء -وعلى رأسهم جون لوك- إلى القول بأن «العقل يولد صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تخط خطوطها على هذا العقل»، وهو ما يعني ضمنا أن الواقع الذي يجد الإنسان نفسه فيه هو الذي يشكل وعيه ومعرفته. وقد يبدو هذا الرأي مقبولا ومعقولا في مجمله، بل يؤيده النظر في الكيفية التي يتشكل بها الوعي ويرتقي لدى الطفل والإنسان البدائي، لكنه لا يفسر لنا العلاقة الجدلية بين تطور الوعي وتطور الواقع التي اهتم بها هيجل وماركس: إنه يفسر لنا نمو المعرفة الارتقائية لدى الطفل والإنسان البدائي باعتبارها معرفة تتطور في ضوء الخبرات والتجارب التي يتحصل عليها الإنسان، ولكنه في النهاية يصور لنا الوعي باعتباره مجرد انعكاس لما يحدث في الواقع والطبيعة، وبذلك يبدو الوعي كما لو كان مجرد استجابة لما تمليه عليه الطبيعة والتجربة في الواقع. ولكن تأمل الأمر بعمق يدحض هذا التصور التبسيطي لمفهوم الوعي: فحتى عقل الطفل لا يولد صفحة بيضاء تماما، بل يولد بملكات عقلية فطرية قادرة على تطوير وعيه، ولذلك فإنه عندما تكتمل الملكات العقلية والإدراكية البيولوجية لدى الطفل، يصبح وعيه في مرحلة النضج قادرًا على الفرز والنقد والإبداع الذي يتجاوز ما تقدمه إليه التجربة وما يجده في الواقع من حوله، وبذلك فإنه يسعى إلى تغيير واقعه، على الأقل واقعه الخاص. كذلك فإن الوعي البشري لدى الإنسان البدائي إذا كان قد تطور في البداية من أجل التكيف مع الطبيعة ودرء مخاطرها، فإنه قد واصل تطوره على الدوام فيما وراء الحاجات والضروريات التي فرضتها الطبيعة.

إن الواقع الذي وجد الإنسان نفسه فيه قد فرض عليه أن يبني كوخا يحتمي فيه من ثورات الطبيعة ومن الضواري التي تهدده، ولكن الكوخ قد تطور ليصبح بيتا، ثم قصرا، ثم معبدا أو بيتا من بيوت الله. ولم يكن ذلك ممكنا إلا بفعل تطور جرى على الوعي البشري نفسه، وما الإبداع في دور العبادة سوى تعبير عن تطور في الوعي الديني هو الذي أنتج هذه الكثرة الهائلة من دور العبادة التي تعبر عن وعي الناس الديني في مرحلة تاريخية ما من حياتهم. والشيء نفسه يمكن أن يُقَال عن تطور الوعي الجمالي: ففن الرسم أو التصوير -على سبيل المثال- قد بدأ بتصوير الطبيعة والكائنات المفترسة التي تهدد وجود الإنسان وتجسد مخاوفه. ولكن بعد أن استطاع الوعي السيطرة على الطبيعة بالتدريج، تطور التصوير ليعبر عن عالم الإنسان بآلامه وآماله وخيالاته وطموحاته من خلال رموز الفن وأساليبه المتنوعة في التعبير.

وكما يحدث تطور الوعي على مستوى حياة الفرد، فإنه يحدث أيضا على مستوى حياة الشعوب نفسها: فلو أننا تأملنا التباين الشديد في مستوى التحضر -الذي يتسع يوما بعد يوم- بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة عن ركب الحضارة، لَتبيَّن لنا أن هذا التباين يكمن أساسه في مستوى الوعي لدى الشعوب، فالتغيير الذي يسعى إلى الارتقاء بواقع الشعوب وحياتها لا يمكن أن يحدث إلا على مستوى الوعي أو البنية الفوقية ذاتها. فهذا الوعي هو الذي يحدد النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلاقة الدين بالدولة ومنظومة القيم الأخلاقية والجمالية، بل يمكن القول بأن الوعي الفردي يمكنه أحيانا أن يحدث هذا التغيير حينما يكون معبرا عن الوعي الجمعي ومجسدا لإرادته، وهذا ما نراه عبر التاريخ في حالة الفرد البطل والزعماء والقادة الذين يكونون قادرين على إحداث نقلة نوعية من التطور في بلدانهم. أما كيف يحدث التطور في الوعي، فلا سبيل إلى ذلك سوى من خلال الارتقاء بالتعليم، ومن ثم بالعلم والثقافة، ولقد تناولت شيئا من ذلك في بعض مقالاتي بهذه الجريدة، من قبيل: «التعليم مشروعا للنهضة» و«الحضارة الوعي الجمالي»، فليرجع إلى ذلك من يشاء.

\"\"

 د. سعيد توفيق

    جريدة عمان