من خلال بداية سحرية يختلط فيها الخيال بالعلم, والسحر بالتاريخ تبدأ رواية “تميمة العاشقات”، للكاتبة لنا عبد الرحمن، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، وهي الرواية السابعة في مشوارها الكتابي ،حيث تدخل زينة للغابة لتنزلق في نفق الزمن، من خلال التيه بين الغد والأمس، مربوطة بسلاسل المصير، تتوه؛ لتفتح عينيها على ست نساء يحطن بها هن بطلات رواية ” تميمة العاشقات”، وبتصدير لجونتر جراس تبدأ حكايتها فتقول: (من يمضي إلى الغابة لا يُسأل عنه في الغابة) .
والغابة هنا هي وعاء التيه، وقابضة الزمن،وباب الحكاية، أما الرواية فهي ست قصص قصيرة لنساء من عصور وأزمنة وبلاد مختلفة تشكل حكاياتهن معاً، ما يشبه متتالية قصصية تصنع رواية”عبد الرحمن”. سمت تلك الحكايات ست خيوط فضية ختمتها بخيط فضي أخير في خط زمني سائل بين الماضي والحاضر، كانت الحكايات تولد من مصر الفرعونية لباريس، ومن مصر الحديثة للبنان،من أذربيجان للهند،من الموصل حتى إشبيلية.
هويات متشابكة وصراعات الذات:
يشكل الصراع الهوياتي ثيمة أساسية في كتابة لنا عبد الرحمن. فأبطالها يحملون على ظهورهم إرث كبير من الهويات الملتبسة والمتداخلة. في روايتها السابقة” بودابار” البطلة القتيلة لها أصول مشتركة (مسلمة ومسيحية) و هناك المهاجرة السيرلانكية، والبطلة العربية التي تحب الشاب الإيراني.
أما في” تميمة العاشقات” فالبطلة زينة التي تُنّقب في سجلات الماضي الممتد،جذورها تتوزع بين نساء عربيات وشاميات وأرمنيات وموصليات.عاشت نسائها من أرمينيا لأشبيلية، وكان الإنتقال من هوية لهوية هو قدر بطلاتها على الدوام. في الخيط الأول البطلة (آلارا) خادمة المعبد الفرعونية التي تتمرد على مصيرها بأن تكون عروساً للإله “حابي” فتدعو الربة ” ايزيس” أن تنقذها من هذا المصير، أن تستجيب لدعائها وتحميها وتتلو عليها الصلوات والتمائم، لتتحول من عروس “حابي” الغاضب لكاهنة” ايزيس”. في الخيط الثالث البطلة الآرمينية (آني) التي تحب” مراد” المسلم، وفي الخلفية صراع الأسرتين الرافضتين لهذا الحب، ولذلك الزواج المختلط. يتعرض الأرمن للاضطهاد في باكو فتهرب آني من أقدارها.
هناك أيضا ميري مجيد “ممثلة الإغراء السينمائية من أصل لبناني التي تحب حازم المصري من أم فرنسية، تغادر بيروت وتأتي إلى القاهرة كي تنتصر لحلمها بالفن.
أرواح توّاقة للهجرة :
يغلب على بطلات ” لنا عبد الرحمن”وجود روح تواقة دوماً للهجرة فأبطالها، إما هاجروا حديثاً أوعادوا من هجرة أو كتبت عليهم الغربة والترحال، فـ”ميري مجيد” هاجرت من لبنان للقاهرة، للبحث عن الفن والشهرة، سعياً وراء هوية جديدة، أما رحمة الموصلية فتهاجر من مدينتها هرباً من الجراد والطاعون الذي ضرب العراق في القرن الثامن عشر.
الذات البطلة في الخيوط الست تبحث عن نفسها طوال الوقت تقول: “ثمة خيالات من ماضٍ لا أستطيع تفسيرها وجوه وقصص لا تغيب من ذاكرتي، خيالات أمكنة وأزمنة أتجاهل حضورها، أنشغل بتحضير الإفطار لزوجي وابنتي وإعداد القهوة لي أخفي ذاتي الأعمق عنهما وأحاول أن أكون ما يريدان مني أن أكون، وأنا كنت أريد الإحتماء بهما من ذاتي ، ذاتي الشريدة الحائرة التواقة للحرية ظللت أدعو الله في سري :” يا الله امنحني نفساً مطمئنة”.
وهناك دوماً مآلات جديدة للشخوص, فالخيط الأول الذي يحكي حكاية (آلارا) كاهنة معبد إيزيس ينتهي بوجود تابوتها في باريس، بعد ما يزيد عن ألف سنة.
(آني) الأرمينية تهرب من غزو العثمانيين المسلمين لأذربيجان ويصبح حبيبها “مراد” المسلم رجلاَ من رجال الغزاة الأتراك والآذريين، فتستقر في النهاية بعيداً عن بلادها في جبل لبنان، أما رحمة العراقية الموصلية في الخيط الرابع فتختبىء في بئر خوفاَ من وباء الطاعون الذي كان يضرب البلاد في القرن الثامن عشر. يموت زوجها “سليمان بلا قبر إثر إصابته بالطاعون، تحب”رحمة” هوفان الأرمني الذي يُسلم كي يتزوجها وينجبان “صبا و”ناي”؛ وكأن الحب فقط من أنبت لهما أبناء بعد أن حرمت منهم أثناء زواجها الأول من سليمان. وسط استهجان الكنيسة الحاضنة لهؤلاء اللاجئين لجدرانها، هذه السطوة الاجتماعية والدينية تحضر في قصص الحب المختلط قديماً وحديثاً تحذر الأخت “جوزفين” رحمة قائلةً: كيف تثقين به؟ من يختل عن الله يتخل عنك . لكن “رحمة” وكأنها لسان حال نساء الرواية جميعاً تجيب أن الله له طرق عديدة وليست طريق واحدةً.
الإنشغال بالفن وللفن:
عاشقات الرواية منشغلات بالفن بالرغم من هربهن وهجرتهن وعذاباتهن الشخصية، هناك بالتوازي مع سعيهن للحياة، هناك حب للفن والموسيقى والخط والسينما، تبقى نساء الرواية في حالة سعي متواصل للحياة وللمعرفة.
في خط /خيط البطلة الثانية آلارا الحسيني ترتحل للهند للبحث عن مُعلم الخطوط “حسين تبريز” الذي يمزج الخطوط العربية التقليدية بالطابع التجريدي، يكتب القرآن بخط الطغراء فكانت ترى في كل حرف مع تشكله وميلانه رقصةً منفردةً، يُعطي حسين تبريز دروساً لطلبته في” دلهي” و”كيرلا” يشرح أصول علم الخط وارتباطه بالتاريخ وبالحضارات القديمة، بالعلامة في الحضارة الشرقية مقابل الإيقاع في الحضارة الإفريقية والصورة في الحضارة الغربية.
في خط/خيط رحمة الموصلية تقرأ البطلة العراقية شعر أبي نواس الماجن مع زوجها سليمان. يقرآن ألف ليلة وليلة وهما يرقصان ويضربان الدف ويشربان النبيذ، تتذكر رحمة “كذلك” حبيبها “هوفان” الذي يمتلك صوتاً عذباً ويحب الغناء والموسيقى، يلجئان للكنيسة في وقتٍ عصيب بينما الموت على الأبواب.
في حكاية (شمس الصباح) سولاي الفتاة الاسبانية المسبية تتعلم من حسان العربي المقامات الموسيقية فيقول لها: ” إن لكل مقام مقال ولكل حالة وجدانية يراد التعبير عنها سلم موسيقي يخضع لقوانين بعينها، فيكون المقام للتعبير عن حالة مزاجية عند الإنسان من فرح وحزن. كانت لها أذن رهفة في تعلم فنون الشعر والموسيقى، أغرمت بمقام النهاوند؛ لما فيه من طابع موسيقي خاص وشجي ويصلح لكافة أشكال التأليف الموسيقية؛ الحزينة والمرحة كما طلبت من أستاذها تعلم العود الذي أغرمت به منذ اللحظة الأولى التي احتضنته بها.” في كل الحكايات هناك وصف للمساجد والكنائس والمقامات وبيوت الغناء والرقص والمراسم، هناك دوماً ارتباط بالحضارات القديمة في الهند والمشرق العربي، ارتباط بالتاريخ حركته ونكباته عنفه وتغيراته.وكذلك تأثير الحضارة الفرعونية والثقافات الإسلامية في العراق والأندلس وإشبيلية. بكل امتدادها الجغرافي الشاسع والممتد.
وادي التأمل/ الوثوب من الأبد إلى الأزل:
في الخيط الأخير”زينة” تواجه “رام” الروبوت الذي يتحكم فيها عن طريق شرائح إليكترونية، يمنعها من الإستغراق في الأحلام الطيبة بآدم ولا يفوتنا هنا رمزية الأسم الذي يمثل شخص أبو البشرية وأول الرجال. تقابل” زينة” بعد التحديق في المرآة من أجل الوصول لمناطق مبهمة في ذاكرتها التي تمثل ذاكرة النساء جميعاً؛ وبعد الخروج من وادي التأمل تقابل جداتها القدامى جميعاً، السبع نساء اللواتي يمثلن الخيوط الفضية والحكايات السحرية؛ وتقابل “دارا” المرأة البدائية التي تطوف حول النار وتصدر تمتمات وأصوات؛ بعض النساء قابلن رجالهن السابقين وبعضهم رفض تماماً. وفي وادي الأجنة تقابل زينة أطفالاً بعيون بنية وسوداء وزرقاء لم يأتوا للحياة، وهي الآتية من بنك النطف بلا هوية وبلا أب معلوم، تسألها جداتها لماذا تقتحم حياتهن الوادعة؟ فتجيب أنهن من من يقتحمن حياتها،عن طريق ارسال صورهن وحكاياتهن لها، جميع النساء يكتشفن امتلاك وحمة على السرة على شكل حبة كرز. أما زينة فتلبس قرطاً من الياقوت، يخبرنها أن هذا القرط يرسل لهن أشعة، تكشف أنها قريبة, وأنها في الجوار وأنهن أيضاً رحن يبحثن عنها. الرجال في الرواية الذين أحبتهن النساء رحلوا وعادوا بعد سنوات في أجساد جديدة، أو اختاروا العودة إلى ماضي أكثر قدماً، وكأنه حلول جديد أو حلول عكسي عن تيه البطلة في خط الزمن بين الماضي والحاضر تقول :” الزمن يتفتت ويتلاشى، يسيل، يصير ذرات بلورية متناهية الصغر، لا مرئية، لطالما كان الزمن منساباً مائعاً يختلط فيه الماضي والحاضر والمستقبل بلا حدود.”
“أنا أتيت إلى هنا لأعرف ما ينبغي عليّ معرفته، أردت العودة للزمن البعيد، حين كانت الأشجار تنحني كي توشوش للبشر بكلمات سحرية، وحين كانت الطيور تستمتع للقرارات المهمة وتشارك بصنعها، والحيوانات تشارك الإنسان رسم مساره .حين كانت هناك امرأة عتيقة تغطي وسطها بجلد خروف بينما بقية جسدها عاريا. ترقص وترقص حول النار تطوف بلا أفكار في رأسها ، سوى فرحتها بالغلال التي أثمرت، ترمي النار بمزيد من الحطب, ثم تستريح على التراب الجاف، وحين تسيل منها الدماء كل شهر يخاف منها الرجال ويظنون أنها تقدم قرباناً للآلهة.”
وتتركنا الراوية في النهاية مع تساؤل الرواية الأساسي هل نهاية البشرية التحرر من الهويات كما تسعى البطلة للتحرر من ثقل الذاكرة!
أماني خليل
مجلة ( إبداع )