مر عام على هذا الحدث الذي أعتبره من ضمن أكثر الأحداث أهمية في عام 2022، وربما كان من المهم أن يمر الوقت قبل أن أتمكن من الكتابة عن هذه التجربة الفريدة. إذ ليس أكثر قوة من مرور الزمن لاختبار صلابة الأشياء وحقيقة استمرارها من عدمه. ذات نهار وجدت على المجموعة التي تضم سكان الحي الذي أعيش به دعوة من أحد أهل الحي لأن نقوم جميعا، بنوع من التضامن الاجتماعي معا، بحيث يقدم كل شخص ما يستطيع تقديمه لجيرانه، مثلا أن يقوم الطبيب بتحديد أحد النهارات للقيام بكشف مجاني لجيرانه، أو أن تتبرع إحدى السيدات بأن تعطي حصصا تعليمية في مادة تتقنها، أو أن يقوم الشباب بتزيين جدران الحي ببعض الرسومات.
للحقيقة كانت الاقتراحات المطروحة على جانب من التنوع والأهمية، تهدف لايجاد بيئة اجتماعية متعاونة، قلما توفرت بين أبناء الحي الواحد في هذا الزمن. وللإنصاف فإن داخل حينا، يحضر التضامن الإجتماعي في شهر رمضان، حيث يتكاتف شباب وفتيات الحي في المساعدة لتجهيز الوجبات والتبرع بها.
بين الاقتراحات المقدمة، كان هناك اقتراح من السيدة \”حنان البنبي\” تدعو فيه سيدات الحي لاقامة صالون قراءة. توقفت كثيرا أمام الفكرة المكتوبة، وفي داخلي خشية أن لا تجد تجاوبا، وضعت على \” البوست\” تعليقا داعما للفكرة، ثم انتظرت ما سوف تأتي به الأيام القادمة.
قبل مرور أسبوع، وجدت تزايدا في عدد السيدات الراغبات في الانضمام إلى صالون القراءة، وقامت السيدة حنان بتشكيل مجموعة خاصة لمن يرغب في الانضمام للصالون، ثم حددت لنا موعدا للقاء في بيتها، أمسية يوم الخميس في الساعة السابعة مساء. أذكر ذاك اليوم جيدا، كنت متحمسة للتجربة الجديدة، وجود صالون قراءة خاص بالنساء، لكن ما فكرت يوما بتنفيذ الفكرة، وها هي جارة قريبة تقوم بهذه المبادرة الجريئة في فتح أبواب بيتها ودعوة جاراتها للجلوس معهن، كي تقرأ لهن، ثم يناقشن معن ما قرأت.
***
لطالما لفتت نظري فكرة \” البيت\” وتفاصيله الصغيرة، فالبيوت تشبه أصحابها. يشبه الدخول إلى منزل السيدة حنان، عبور بوابة الزمن، إذ بعد تجاوز العتبة يحتضن الزائر صالون واسع مع شرفة تطل على أشجار البانسيان والنخيل المتشابكة، تفاصيل الأثاث الحميم تجمع ما بين المقتنيات الفاخرة الأنيقة والذوق الرفيع، مع لوحات وتحف ومزهريات ومكتبة تتوسط الصالون تزينها صور لأفراد العائلة في إطارات مختلفة الحجم. كل التفاصيل مغزولة بالفن، وبالدعوة للانفصال عن صخب العالم الخارجي وضجيجه.
لما وصلت في المرة الأولى، كان هناك ما يزيد عن عشر سيدات من مختلف الأعمار، معظمهن لا يعرفن بعض، لكن جميعهن كن متآلفات ويتطلعن إلى الوجود ضمن حلقة القراءة. لم أكن أعرف حتى ذاك النهار، أن حنان البنبي هي كاتبة سيناريو، وهي زوجة الفنان الراحل عبدالله محمود، ووالدة الممثل الموهوب أحمد عبدالله محمود،إذ طالعتني الصور المعلقة في أكثر من مكان لتعلن عن هوية أهل البيت.
استمرت تجربة صالون القراءة في لقاءات أسبوعية تمتد لساعات، بسبب حرص صاحبته على التمسك بطقس يوم الخميس الذي أرادت من خلاله استعادة جمال زمن مضى يسكن داخلها، كانت حنان ومازالت تعتني بكل التفاصيل التي تسبق اللقاء، وتحرص على إزالة أي سوء فهم قابل للنشوء، إلى أن صارت هذه الأمسية موعدا مقدسا بالنسبة للسيدات اللواتي نشأت بينهن صداقة، يمكن وصفها بأنها صداقة الجيران، وأهل الحي الواحد في الزمن الماضي، جميع الحاضرات وبينهن ربة البيت والطبيبة والمهندسة والمترجمة والمدرسة والطالبة والمحامية ، والموظفة، وغير ذلك من المهن، ولكل منهن شخصيتها المستقلة واهتماماتها، حيث أضفى هذا التنوع ثراء للمجموعة، التي تلتقي من أجل الثراء الفكري من ناحية، ولأنهن متعطشات لوجود صداقات وعلاقات ود وألفة فيما بينهن. تجاوز الصالون حدود اللقاء الأسبوعي، إلى حضور أمسيات موسيقية وندوات أدبية وفعاليات ثقافية متنوعة، إذ يكفي أن تقترح احدى سيدات الصالون فكرتها عن حضور حدث ما، سرعان ما تجد من الحاضرات من يرغب بالمشاركة والذهاب معا.
لقد كسرت تجربة \”صالون القراءة\”، طوق الوحدة الذي كان يجعل من كل سيدة داخل الحي، تعيش في عزلة لا تعرف شيئا عن جاراتها، وقرب المسافات بين القلوب، وأعاد تلك الألفة الإجتماعية التي اعتدنا عليها في مجتمعنا المصري والعربي، وكثيرا ما أفكر في حاجة البشر حقا لعودة التواصل الواقعي المرئي، الذي يتضمن اللقاءات والحوارات الحقيقية، لا تلك المبتسرة عبر الفضاء الافتراضي، التي جعلت من كل شخص يعيش على جزيرة منفصلة غير مشغول بما يحدث للآخر، مهما كان قريبا منه.
إن تجربة صالون القراءة، تدل في بساطتها وتلقائيتها على الحاجة والرغبة للعطاء والبذل من أجل تكوين علاقات انسانية، تستحق أن نمنحها الوقت والجهد كي تستمر في جمال ونبل عز وجوده هذه الأيام.
د.لنا عبد الرحمن