خيمة في الدهيشة

\"\"

حملونا في سيارة ترّك، وباتت الكروم وراءنا، ونحن نرتجف من البرد وندير رؤوسنا في كل اتجاه، والغيوم السوداء تغلق وجه السماء، والمطر يسيل علينا كأنه ليس حبات مطر، ولكنه قربة بابها مفتوح فوق رؤوسنا كما تقول وتردد العمة مليحة، وهي تحاول ضم أبناء عمي وابنتها إلى صدرها.

بطرف أصابعها تصل إلى رأسي فتتحسسه وتطلب مني أن ألتصق بصدرها.

عمي عبد الرحمن يغطي رأسي أمه ذوابة وجدتي فاطمة ليحميهما من المطر، وهما ترتجفان وترددان: رحمتك يا رّب..رحمتك ..إحنا شو سوينا يا لطيف؟!.

العم يرفع رأسه إلى السماء ولا يعلّق، ولكنه يتنهد ويصرف بأسنانه، ثم يغمض عينيه وكأنه ينام، ولكنه لا ينام فجسده يرتجف، ثم يفتح فمه المرتجف: يكفي يا رب..يكفي. إحنا شو عملنا حتى نتعذب كل هالعذاب؟

وصلت السيّارة، وتوقفت، ونط من جوفها السائق وصاح:

-يلاّ انزلوا يا جماعة…

نطّ أبي من باب السيّارة وهو ينفخ في يديه، وجسده يرتجف. تقدم عمّي وهو يفرك يديه، وحمل أمه على ظهره، وراح إلى خيمة واسعة أشار لها رجل يقف قرب السيّارة

-تلك الخيمة لكم..واسعة وكويسة..والخيمة الصغيرة لك يا محمود أنت وأمك وابنك..يلاّ اندسوا تحت الخيمتين. سنحضر لكم بطاطين لتتدفأوا..يلاّ..وشوية معلبات وطحين لتخبزوا وتأكلوا. معكم صاج؟

يتناول العم عبد الرحمن زوجته وابنته وأبناءه..و..تهدر السيّارة مبتعدة، ونحن نقرفص مرتجفين.

يقف أبي في منتصف الخيمة لصق العامود، ويدور حوله، والريح تهدر وترّج الخيمة، والجدة تتلو الأوردة والأدعية.

جاء رجل يحمل بطانيات، وكومها لصق العامود.

هذه لكم..اتغطوا..ونانموا

وراح، فبقي أبي واقفا لا يعرف ماذا يفعل.

أرضية الخيمة مبتلة، والريح تصفر وتمرجح الخيمة.

لعنة الله على الدول..تفو.. ضيعونا نكبهم الله.

الخيمة مدوّرة من تحت ومبرومة من فوق.

ارتفع صوت يتأرجح مع الريح:

يا نااااااس بدكم شئ؟

هزّ أبي رأسه:

بدنا كل شئ! بدنا بلادنا ..بس بلادنا بدنا..بتقدر ترجعنا إلها.

اندس رأس ووجه من شق باب الخيمة.

يا أسفاه ما ينعزش..بقدرش أرجعكم على بلادكم..بقدر أجيب لكم بطانيات..بس!

بدنا حطب يا أخ!

هز الشخص رأسه:

حطب ! كله مبلول..منقوع ماء..يا اسفااااه.

سأله أبي:

شو اسم المطرح يا أخونا؟

-مخيم الدهيشة…

تمتم أبي:

مخيم الدهيشة..راحت ذكرين..قريتنا..وكرومنا..وبهائنمنا..وها نحن نعيش في الوحل..وركّز نظره على جدتي.الشخص سحب رأسه من شق الخيمة، ثم غاب وهو يتمتم…

شققت باب الخيمة لأتطلع من الفُرجة فرأيت سوادا وغيوما ثقيلة تغلق السماء. أمرني أبي:

-أدخل..والبد.

ارتفع صوت جدتي:

يا لطيف  يا لطيف  يا لطيف

اجعل البلاء خفيفا يا رب

قرفص أبي فوق البطانيات.

حضر عمي عبد الحمن حاملاً إبريق الشاي.

وقف في منتصف الخيمة:

مليح اللي عندنا بريموس اشتريناه من الخليل.

صب في كبايتين:

ناول الجدة فاطمة واحدة:

خذي يمّا فاطمة

مدّت أصابعها المرتجفة ورفعت الكباية إلى فمها وهي تتنهد. أبي تناول الكباية الثانية من بين أصابع عمي..وارتشف منها:

اشرب يا محمود وصب لابنك..صب  لرشاد.

انحنى على رأسي ، وأخذ يفركه..ثم باس راسي..وشعرت بشئ ساخنا يسقط على راسي فعرفت أنها دموع عمي.

المخيم الدهبشة..إسمه الدهيشة يا محمود..راحت ذكرين..يا ولدااااه

وأجهش بالبكاء وهو يخرج وينزل باب الخيمة.

وسااااد وجوم.

ها قد بدأنا رحلة جديدة..تحت الخيام.

…..

*هناك، في الوحل، تحت الخيام، في الجوع والبرد بدأنا رحلة الخيام ..رحلة امتدت حتى اليوم.أكتب فصولها لتتعرف الأجيال على معاناتنا، ولا تنسى.

قصة : رشاد أبوشاور