لوحة غرافيكس للرسام وليد نظامي
يتورط قارئ رواية \”درب الصد\”، للكاتبة العراقية هدية حسين (دار الذاكرة- بغداد) في العودة إلى ماض عبثي مأساوي، وتحديداً إلى ما وقع في الأيام التي تلت عام 2003، حين شاع في بغداد الانفلات الأمني والخطف والقتل، وطلب الفدية، يوم \”أصبح الفضاء ملغوماً، والحياة تتوقف بعد مغيب الشمس بقليل\”. وعلى الرغم من ابتعاد هدية حسين سنوات عدة عن العراق، وانتقالها إلى كندا ثم اختيارها العودة إلى بغداد، فإن جل رواياتها طغت عليها أحداث وطنها في مراحل زمنية مختلفة، فيما عدا روايتها \”صخرة هيلدا\” التي كتبتها عن كندا، ضمن تداخل ملتبس بين ما تشاهده البطلة في واقعها الكندي اليومي، وما سجلته ذاكرتها عن أرض النخيل البعيدة.
تقدم \”درب الصد\” مآلات مرحلة مأساوية من تاريخ بغداد، حين سيطرت العصابات المسلحة، والميليشيات والحروب الطائفية على حياة الناس، فسلبتهم الأمان وكل معاني الحياة النبيلة، تقول: \”البيوت هي الأخرى لم تعد آمنة، فقد يداهمون أصحابها حتى وإن أقفلت بعشرة أقفال، تلك البيوت كان زجاجها الصقيل باتجاه الأفق الواسع سعة أحلام الناس، لا أفق ولا اتساع بعد اليوم، يخاف الناس حتى عندما تقرع الأبواب، فكم من مرة يُقرع الباب، وما إن يخرج صاحب البيت حتى يُفاجأ بعدد من المسلحين، إما يخطفونه ويساومون عليه، أو يقيدونه ويروعون أهله، ويسرقون ما خف حمله، وغلا ثمنه\”.
لعل قراءة هذا النص وفق منهج النقد الثقافي، تحيلنا إلى تحليل العنوان المرتبط بالنسق الاجتماعي الآتي من مثل شعبي شائع، يقول: \”درب الصد ما رد\”، بحيث اكتفت صاحبة \”ريام وكفى\”، بالجزء الأول منه؛ فما الذي لا يمكن أن يعود من جديد، هل هي دوامة الجنون والتهديد التي تسيدت تلك السنوات؟
تبدأ الرواية مع صوت سراج البستاني يُكلم نفسه بضمير المخاطب، ويسترجع ماضيه بعد اختطاف زوجته وفاء، هذا الاختطاف الذي مضت عليه أعوام، لكن واقعه الحارق لا يزال يدمغ حياة الزوج المثقل بوجعه، فلا هو عرف أن زوجته ماتت، ولا هي رجعت إليه. لكن مأساة سراج، ليست استثنائية، بل متكررة، هذا ما تكشفه الرواية، مع حادثة خطف أخرى لمنيرة، زوجة مولود التاجر، جار سراج وصديقه. يتعاطف القارئ مع سراج، ومع شخصية وفاء المرسومة بدقة، وينتظر عودتها على مدار النص، لأن مأساة سراج لم تبدأ فقط مع خطفها، بل من لحظة إرسال رصاصة في مظروف لتهديده بالقتل أو الرحيل من بيته، لأنه لا ينتمي للطائفة المسيطرة على المنطقة، نقرأ: \”عند المساء أجهضت وفاء، في بيت أحد الأقارب الذين التجأ إليهم سراج، وبعد شهر واحد وجد بيتاً فاستأجره محتمياً بطائفته\”.
نهاية الجمال
لم يكن حدث الاختطاف في حياة سراج مأساة مفتوحة على الظلام فقط، بل إنها جسدت بشكل واقعي، نهاية لمرحلة كاملة من حياته، عاش فيها مُطمئناً رغم ما يحدث حوله من حروب. لكن غياب وفاء في المجهول، وضعه في قلب نار مستعرة، إذ تلى هذا الحدث اختيار ابنه نعيم الانضمام لتنظيم متطرف، مما جعل سراج عاجزاً عن فعل أي شيء في حياته، يتأمل في أشياء البيت، وفي ثياب زوجته المعلقة، ويفكر كيف غابت. ولا يكف عن السؤال للعثور عما يدله على أنها في عالم الموتى أو الأحياء، \”كان سراج خلال تلك المدة لا يكف عن البحث، كلما سمع بالجثث المجهولة الهوية، التي تُلقى على قارعة الطريق أو في الأنهر، أو فوق تلال القمامة، ولا يمل من مراجعة دائرة الطب العدلي ويدخل إلى المشرحة ليعاين جثث النساء\”.
ترصد حسين تفاصيل صغيرة تُنبئ عن الخراب في كل مكان، وعن غرق البلاد في سوداوية قاتمة. فمن خلال تتبعها لأيام سراج، وما يحدث في حياته من تغيرات بعد اختفاء زوجته، وضياع ابنه، وهجرة أخته رحاب، نرى ما يقع في بغداد، رغم أن سراج لا يبارح بيته إلا نادراً. بل إنه بمرور الوقت وتكاثر الأمراض عليه، البدنية والنفسية، أصبح عاجزاً حتى عن النظر في مرآته، ومعرفة نفسه، لقد خسر واقعه، بل عالمه كله، فما الذي بقي له ليحيا من أجله، إنه خارج مجسات الزمن.
من خلال ما يحدث مع الابن نعيم وانضمامه إلى فصيل إرهابي، تنتقد مؤلفة \”أدركها الصباح\”، ما يفعله شيوخ الدين المتطرفين من أثر سيئ على عقول الشباب مع الفتاوى الظلامية التي تشجع على العنف، يتساءل سراج: \”هل هو حي الآن، أم فجر نفسه في مكان ما وتشظى مثل ضحاياه الأبرياء؟\”.
الخطف والشكوك
تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول، في الفصل الثاني ترمي الكاتبة بالشكوك حول أحداث الاختطاف ككل. دفع سراج الفدية كي ترجع وفاء، ولم تعد. كذلك دفع زوج منيرة مائة ألف دولار لاستعادتها، لكنها لم ترجع، وهناك من يزعم بأنه شاهد منيرة في عمان برفقة رجلٍ ما يقال أنه عشيقها. صيت الإشاعات والأقاويل يُدمي قلب سراج لأنه سيمس وفاء أيضاً، فقد كانتا صديقتين حميمتين وبينهما أسرار، فمن قال إن وفاء لم تهرب أيضاً؟\” يتذكر كيف جاءت منيرة لتواسيه، دون أن تذرف أي دمعة، وكيف كانت تحثه على دفع قيمة الفدية\”، فما الذي يجعل وفاء تخرج من البيت في ذاك النهار رغم أنها لم تخبره بنيتها للخروج؟ تتصاعد وتيرة الشك في عدة أجزاء، ويتداخل صوت السرد في الرواية بين الراوي العليم، والمخاطب الذي تستعين به للكشف عن بواطن سراج، بينما طغى الراوي على سائر الأحداث ويتجلى حضوره في التفاصيل السردية والحوارات بين \”وفاء\” و\”منيرة\” وتناول ما بينهما من أسرار. وتأتي هذه الفقرات بعد مونولوغ داخلي طويل لسراج، تراوده فيه الشكوك حول زوجته. لنقرأ: \”فبعد انكشاف ما قامت به منيرة، أعاد الأهالي حساباتهم بكل عمليات اختطاف النساء في تلك المحلة، أو في المحلات الأخرى والمدن، وشككوا بالحكايات، لم تعد لديهم ثقة بنسائهم. ماذا ستقول لعيون الناس المتشككة يا سراج، فكم منهن اختطفت فعلاً، ومن هربت برفقة عشيق؟\”.
تنحو هدية حسين في هذه الرواية إلى الشك أكثر من اليقين، ليس فقط على مستوى النسوة المختطفات، بل أيضاً في تناولها لكل مآلات الحروب الطائفية، مثلاً شخصية إبراهيم الفيترجي الذي زعم أنه شاهد منيرة في عمان، يتم حرقه والتمثيل بجثته من أهل منيرة، لكن هذه ليست هي الحقيقة، إذ ربما قُتل إبراهيم لسبب آخر، بخاصة أن ابنه ممن شاركوا من قبل في إسقاط تمثال الرئيس.
في الفصل الثالث، يبدو الجنون مرادفاً للحرب الطائفية، تلتقي عدة شخصيات وتتحاور في تداخل سريالي عابث بين الواقع وما فعله القتال داخل العقول والنفوس. هناك سعدون المجنون ورشيد الشاعر، وحليمة الخبازة، وأفنان ابنة وفاء، تتجاور هذه الشخصيات لتكمل صورة الهذيان العام، مع اختيار الكاتبة نهاية قاتمة لبطلها سراج، لأن سنوات الحرب لا تزال طويلة ومستمرة، وكما يصرخ سعدون الذي أصيب بالجنون نتيجة حرب سابقة: \”العالم أصبح خرااااباً\”.
تنحو هدية حسين في هذا العمل عبر لغة مكثفة ومشهدية، إلى المزج بين تقنية التشويق والواقع النفسي للأبطال بكل فجائع الحروب وجنونها، إلى جانب الإضاءة على ما يفعله \”الفقد\” القسري في حياة أهل الفقيد. هذا النوع المشترك من المآسي تخوضه كل البلاد التي عانت من الحروب الطائفية.
لنا عبد الرحمن
independentarabia