روايتان للنوبلي عبد الرزاق قرنح بين أيدي القراء العرب

\"\"

قبل أن تشرق شمس نهار الفائز بجائزة نوبل 2022 في شهر أكتوبر القادم، وصلت إلى أيدي القراء العرب روايتي النوبلي عبد الرزاق قرنح ، الذي حقق فوزه مفاجئة كبيرة في الأوساط الثقافية على مستوى العالم، والعربية خصوصا، كونه اسما مجهولا تماما للقراء العرب، رغم ترشحه لعدة جوائز مثل جائزة البوكر، والكومنولث للكتّاب.لكن من المهم الإشارة أيضا إلى أن قرنح معروف ضمن الأوساط الثقافية الإنجلوفونية، ولم يكن منتشرا في الأوساط الأدبية الفرنكوفونية.
وفي خطوة نشيطة، متوافقة مع الزمن الذي تحتاجه ترجمة الأعمال الأدبية، بل الروايات تحديدا، وضعت دار أثر السعودية، بين أيدي القراء العرب، بعد حصولها على حقوق الترجمة لأعمال \”عبد الرزاق قرنح\”، روايتي \” ذاكرة الرحيل\” للمترجمة عبير عبد الواحد، و\”ما بعد الموت\” ترجمة نوف الميموني، وجاري العمل على ترجمة الروايات الأخرى، التي سوف تُثري المكتبة العربية، وتُمكن الباحثين والقراء، من الغوص أكثر في عالم \”قرنح\” المتشعب، والممتد الجذور بين أكثر من قارة، والذي يركز على مآلات مرحلة الاستعمار،وآثارها على القارة الإفريقية.

تقدم قراءة روايات قرنح للقارئ العربي تحديدا، اجابات على أسئلة جغرافية وتاريخية محضة، بدت ملتبسة ومتداخلة بين الماضي الكولونيالي والحاضر الحافل بالتحولات السريعة، ربما لأن \”قرنح\” بحد ذاته يأتي من منطقة تشتبك وتتداخل فيها الهويات والثقافات واقعيا ونفسيا، فيبدو من المحال تعريفه بشكل محدد، أو صياغة كلمة واضحة عن مفهوم \”الانتماء\” بالنسبة لكتابته. إذ هو يُعرف عن نفسه بأنه مواطن \”إنجليزي من زنجبار\”، وفي الوقت عينه يراه البعض عربيا كونه من أصول يمنية، وبأن الجائزة وصلت إلى يد عربي مرة أخرى، رغم أن \”قرنح\”، يكتب بالإنجليزية، وموضوعاته معنية أكثر بما يحدث في إفريقيا، مثل معاناة المهاجرين والنزوح والعنصرية، وتجارة البشر، والفقر والفساد الحكومي، والمعاناة من ظلم المستعمر. قرنح نفسه لا يُنكر هذا، يحكي ببساطة عن عدم احساسه بأنه عربي، وأن هاجسه الإبداعي هو نقل ما يواجهه المهاجرون من معاناة جسيمة، والكتابة عنها من منظور حقيقي وبنظرة ثاقبة تخلو من المغالاة، فهو يرى أن اللاجئ شخص خرج من رحم المعاناة نفسها.

ذاكرة صوفية
يمكننا معرفة قرنح أكثر مع عنوان روايته الأولى التي صدرت عام 1987 \”ذاكرة الرحيل\”؛ إنه عمل يرتكن إلى المواجهات النفسية مع سنوات الطفولة والشباب، التأمل في صراعات ذاتية داخلية لا يمكن الفرار منها، لأنها تظل مرافقة للبطل \”حسان\” حتى بعد ارتحاله من وطنه إلى بلد آخر.

\"\"
تكشف الرواية أنه من غير الممكن نسيان مخاض الميلاد الجديد وعذاباته، وأن الارتحال المكاني، وما يشمله من تشظيات نفسية عند البطل \”حسان عمر\” يُمثل مسار رحلة صوفية مضنية يكتوي صاحبها بنيران التحولات المفروضة. تبدأ الأحداث في بلدة صغيرة تقع على الساحل الإفريقي، البطل المحوري \” حسان عمر\”شاب يافع، حالم، ينشئ في واقع مأساوي، ضمن أسرة بائسة، يتحكم بها أب سيء يُعرض أسرته للأذى النفسي والجسدي، مما يدفع حسان بتحريض من والدته، للتفكير بالهرب إلى خاله في نيروبي، حيث سيكون الارتحال الأول. لكن الواقع لم يكن أفضل، ورغم ذلك يقع حسان في حب ابنة خاله سلمى، وحين يغادر يتمنى أن يرجع من أجلها هي.
ربما تُعبر براءة حسان ودهشته إزاء العالم الخارجي عن حال قارة إفريقيا في علاقتها بالمستعمر وبالغرب، رغبة حسان في الانعتاق من أسرته وبلدته وحاله البائس، والرحيل إلى واقع آخر، تظل مغموسة بالحنين إلى وطنه، والاشتياق إلى طبيعة بلده وأماكنها التي لا تتشابه بالنسبة له مع أي مكان آخر.
تتناول الرواية أيضا المعتقدات الغيبية، والطقوس المرتبطة بالعالم المحجوب، التي تسيطر على حياة الناس وتتحكم بأفكارهم وقناعاتهم، كأن يقول :\” كانوا يقدمون التضحيات من أجل استجلاب المطر.كان كبار السن في القرية يأخذون الأرز أو الدقيق، والحيوانات أحيانًا، إلى الضريح الموجود على الجُرف. حيث يمكنك في الليل سماع الأشباح. \”
الملاحظ في النص المترجم رشاقة الترجمة وانضباط اللغة ومراعاتها لأسلوب الكاتب، كما أن المترجمة عبير عبد الواحد تخيرت العبارات الدالة بدقة عن الحالات الواقعية والوجدانية التي يمر بها الأبطال، مع الحرص على ترجمة الكلمات القادمة من اللغة السواحلية والألمانية.

ما بعد الموت
في رواية \”ما بعد الموت\” الصادرة عام 2020، يقدم قرنح للقارئ الغربي والعربي على السواء رؤيته لموضوع تاريخي شائك، يتعلق بالجنود الأفارقة الذين أجبروا على الانضمام إلى صفوف المستعمر، حيث يعود بالزمن إلى حقبة الاستعمار الألماني والحرب العالمية الأولى، والمكان هو بلد في شرق إفريقيا.
هذه القضية التي تُعتبر من ضمن الموضوعات البالغة الأسى المسببة لألم إنساني غائر لدى أصحابها، وللمقربين منهم أيضا، حضرت أيضا في رواية \”شقيق الروح\” للكاتب الفرنسي الإفريقي ديفيد ديوب، وقد حاز عنها جائزة البوكر الأدبية الدولية لعام 2021؛ يتناول ديوب علاقة صداقة تجمع بين جنديين من السنغال يقاتلان في الجيش الفرنسي، يخوضان معاً غمار الصداقة وعذابات الحرب وجراحها الدامية جسدياً ونفسياً.

\"\"
في رواية قرنح، نتبع مصير شابين أُجبرا على الالتحاق في صفوف القوات الاستعمارية الألمانية،يكشف الكاتب عن معاناة الإفريقي، الذي يقاتل من أجل القوى التي تتنازع على إفريقيا. يقدم الكاتب قصة الياس، الذي اختطف من والديه حين كان صبيا صغيرا،ثم يصبح جنديا عند الألمان، وبعد مرور عدة سنوات يعود إلى قريته ليجد الواقع قد اختلف بعد رحيل والديه، وفقدانه للأمان الذي حلم باستعادته.
هناك أيضا حمزة، الذي يخدم مع القوات الألمانية، وبلغ سن الرشد في الجيش وحظي بنوع من الرعاية من أحد الضباط الألمان الذي حماه بسبب ملاحظته رغبته في التعلم، قام الضابط برعايته لكنه هيمن على حياته. وبالنسبة إلى حمزة ، الذي تمكن من تعلم اللغة الألمانية واكتشاف شعر \” شيلر\”، يؤرقه جدا هاجس الحرب، ولا يملك كلمات تصف كيف انتهت، لكن كل ما يريده في الحياة العودة إلى بلدة طفولته، والعثور على عمل متواضع بسيط وآمن، وأن يحظى بالحب الذي يطوق إليه، مع \” عافية\” شقيقة إلياس.
وتركز الرواية على كيفية استغلال هؤلاء المجندين في زرع الرعب والموت والنهب والخراب، ضمن معركة استعباد السكان المحليين.لكن كلا البطلين يُدرك في قرارة نفسه أن الألمان والبريطانين والفرنسين والبلجيكين وغيرهم رسموا خرائطهم ووقعوا معاهداتهم كي يقسموا إفريقيا.
إنها قصة تنزانيا منذ الحرب العالمية الأولى إلى الفترة المعاصرة. بداية من تاريخ تجارة قوافل التجار الهنود والاستعمار الألماني ثم البريطاني، وصولا لحصول تنزانيا على استقلالها عام (1961-1964).
كلمة النهاية في الرواية يتركها الكاتب للشاب إلياس، المسكون منذ مراهقته بأصوات مؤلمة، تلهمه فيما بعد وتدفعه نحو الكتابة،ربما هذه النهاية تتقاطع مع تصورات عبد الرزاق قرنح، نفسه، عن رحلة الكتابة.
رغم التباعد الزمني في كتابة قرنح لرواية \”ذاكرة الرحيل\”، عن \”ما بعد الموت\” فإن هذه الرواية أيضا منفتحة على التعددية اللغوية، في تضمنها كلمات باللغتين السواحلية والألمانية، وقد راعت المترجمة ببراعة اختيار الترجمة المناسبة لهذه المفردات، ضمن سياق المعلومات التاريخية والسياسية والجغرافية، التي يحفل بها النص.

لنا عبد الرحمن

www.independentarabia.com