من يشاهد فولوديمير زيلينسكي الممثل، يؤدي قبل توليه رئاسة أوكرانيا، دوراً كوميدياً في مسلسل \”خادم الشعب\” ببراعة تامة، يُصاب بصدمة عندما يشاهده اليوم على الشاشات الفضائية العالمية، يخوض أقسى المعارك ضد الجيش الروسي الزاحف نحو أوكرانيا. في المسلسل الشعبي الذي أطلقه ممثلاً كبيراً، يعيش زيلينسكي لحظات بديعة من المواقف الكوميدية والهزلية الصاخبة، وفي المسلسل العسكري الواقعي جداً، يعيش لحظات مأساوية رهيبة، متنقلاً بين الجبهات ومواقع القتال، أو مُطلاً عبر القنوات الإعلامية، معلناً صموده أمام الزحف الهمجي، وداعماً الشعب الأوكراني في هذه الحرب غير المتكافئة بين قيصر بلشفي ورئيس ديمقراطي.
لعلها صدمة حقيقية تتمثل في هذا الانتقال اللا متوقع، بين واقع كوميدي شبه افتراضي في المسلسل الشعبي الذي تظهر فيه أوكرانيا بلاداً مُسالمة وديمقراطية تصر على الحياة والحلم، وواقع مأساوي تراجيدي يجسد معاناة شعب وجد نفسه بين يوم وآخر، ضحية أطماع دولة استعمارية كبيرة، يواجه القصف والدمار والنزوح، ويكابد مرارة العيش في ظل الخوف المُريع والإرهاب والقتل. بين هذين الواقعين المتناقضين، تظهر حقيقة البربرية الحديثة وتتكشّف أكاذيب الأنظمة والقوى والأمم الدولية، وتسقط كل الوعود والآمال التي طالما منّى أنفسهم بها، مواطنو العالم الجديد، ومنهم الأوكرانيون.
كوميديا ومأساة
قد تكون مشاهدة مسلسل \”خادم الشعب\” غير مُواتية الآن، فالوقت ليس مُهيّأً للكوميديا الأوكرانية الرائعة، لكن هذه المشاهدة ترسخ صورة أوكرانيا الديمقراطية ورئيسها الافتراضي، بين عامي 2015 و2019 اللذين تم تصوير المسلسل وعرضه تلفزيونياً فيهما، لكن المسلسل هذا يشهد اليوم في ظل الحرب المستشرية، رواجاً في القنوات ووسائل التواصل (قناة آر تي – فرنسا، يوتيوب…)، وفيه يسعى الجمهور العالمي إلى مشاهدة الرئيس زيلينسكي عندما كان ممثلاً، يؤدي دور أستاذ في مادة التاريخ، ثم ينتخب بالصدفة رئيساً لبلاده. في المسلسل بدا زيلينسكي ممثلاً قديراً جداً في إطلالته الكوميدية والهزلية، على طريقة كبار الممثلين الكوميديين في العالم، لكنه ممثل يحمل رسالة سياسية واضحة ومواقف نقدية تفضح الفساد الذي كان مستشرياً في أوكرانيا الجديدة ويكشف الأكاذيب الفاقعة.
كان زيلينسكي عندما انطلق المسلسل في السابعة والثلاثين، متفائلاً، يضج بالحيوية والحماسة، وكأنه يطمح فعلاً إلى الوصول إلى كرسي الرئاسة الذي وصل إليه افتراضياً أولاً بحسب المسلسل، ثم وصل إليه واقعياً. والطريف هنا أن زيلينسكي عندما قرر خوض المعركة الانتخابية بُعيد الانتهاء من عرض المسلسل، أطلق على حملته في عام 2018 اسم \”خادم الشعب\”، وأسس حزباً صغيراً تبنى الشعارات نفسها التي أطلقها في المسلسل، وكانت أحد أسباب نجاحه الشعبي الهائل، ومنها: محاربة الفساد، ومواجهة الفئة الأوليغارشية الأقلية التي تهيمن على القرار الحكومي، ومجابهة السلطة السياسية والاقتصادية في أوكرانيا، وفضح الأكاذيب وإسقاط الأقنعة المزيفة… الآن أصبح زيلينسكي في الرابعة والأربعين، وقد زادته أعوام الرئاسة قوة وصرامة وشجاعة، وبعد أن واجه سلطات الفساد الداخلي بحنكة وذكاء، يواجه الآن سلطة خارجية، ديكتاتورية، فاسدة ورعناء ومتغطرسة. وكانت السلطات الروسية قد راقبت مسلسل \”خادم الشعب\” حين عرضه في روسيا، وحذفت المشاهد التي \”تُدغدغ\” بوتين نفسه، ثم منعت عرضه نهائياً.
عندما انطلق المسلسل عام 2015 على القناة الأوكرانية \”1 بلاس\”، وهو من إخراج أولكسي كيريوشينكو، ومن إنتاج شركة \”كفارتال 95\”، سرعان ما جذب الممثل فولوديمير الجمهور عبر أدائه شخصية الأستاذ الذي يدرس مادة الجغرافيا والتاريخ، الأستاذ العادي، المتزوج والمطلق والأب الذي يعيش بين أهله في مدينة كييف.
الأستاذ الغاضب
هذا البطل، أو \”الأنتي – بطل\” الذي يحمل اسماً في غاية الطرافة هو فاسيلي بيتروفيتش غولوبورودكو، يتخطى جو التعليم والمعهد الثانوي الذي يدرس فيه، ويشارك كمواطن، في نقد الحياة السياسية التي يعيشها مثل الشعب كله، يثور على الديمقراطية المزيفة، ويؤكد عدم جدوى الانتخابات الرئاسية المقبلة. يصوره أحد تلامذته في نوبة من الغضب، يهاجم فيه المرشحين الرئاسيين كلهم، ويصفهم كوميدياً بـ\”البلهاء\” المنضوين إلى نظام يتآكله الفساد. وينتشر فيلم الفيديو على الإنترنت، ويراه جمهور كبير من المشاهدين.
ورواج هذا الفيلم يجعل الأستاذ فاسيلي، من غير أن يدري، مرشحاً إلى الرئاسة. وفي الدقائق الأولى من الحلقة الأولى، نشاهده بصفته رئيساً منتخباً للجمهورية، لكن هذا الأستاذ البريء يجد نفسه في عالم غريب ومجهول لا يعرف عنه إلا القليل، ويكتشف أن رئيس الوزراء يسعى إلى معاملته وكأنه دُمية متحركة. وشيئاً فشيئاً يشرع فاسيلي في فرض نفسه وأفكاره وأسلوبه كـ\”خادم\” للشعب، ويعلن معركته ضد الفساد الشامل، معتمداً الفن الكوميدي، بل الهزلي الساخر. وينم أداؤه عن خامة ممثل قدير وموهوب وصاحب خبرة في تقمص شخصية الرئيس القريب من الناس، لكن الجو الكوميدي لا يخلو من العبثية والمرارة والنقد الشديد. فهو على على الرغم من توليه الرئاسة ظل الأستاذ نفسه، نظيف الكف والفقير، وطيب القلب.
وما زاد من نجاح المسلسل انعطافه الرمزي والتاريخي والتخييلي. يتخيل الأستاذ – الرئيس، أنه يلتقي شخصيات تاريخية مهمة في لقطات فريدة، ومنها مثلاً الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن الذي قاد البلاد في القرن التاسع عشر بنجاح وأوقف الحرب الأهلية، وتمكّن من خوض معركة تحرير العبيد. وكذلك الملك الفرنسي لويس السادس عشر، آخر ملوك فرنسا قبل سقوط الملكية، إبان الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، والذي أعدم معلقاً على المقصلة. وأيضاً إيفان الرهيب، أمير موسكو وقيصر عموم روسيا في القرن السادس عشر، المعروف بقسوته وعنفه في قمع الثورات وقيادة الحروب الاستعمارية. ولعل استدعاء مثل هذه الشخصيات يحمل دلالات سياسية ورسائل نقدية واضحة. في لقائه لينكولن في المشهد التخييلي يقول له الرئيس الأميركي: \”أين المنجزات التي حققتها؟ أنت أيضاً تستطيع أن تحرر الشعب\”. فيجيبه: \”ليس من عبودية هنا؟\”. فيرد عليه لينكولن:\” ماذا عن ملايين الأوكرانيين الذين يرهقون أنفسهم كي يؤمنوا سيارات الليموزين والبيوت الفخمة لنخبة قليلة \”مسمنة\”؟ أليسوا عبيداً؟\”.
حصاد الأصوات
عرضت حلقات القسم الثالث من المسلسل قبل الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، لكن المفارقة التي برزت هنا تمثلت في حصد فاسيلي على الشاشة 67 في المئة من الأصوات، بينما حصد زيلينسكي المرشح إلى الرئاسة في الواقع أكثر من 73 من الأصوات. وهذا يعني أن المسلسل ترك أثراً كبيراً في حياة المواطنين، فأقبلوا على الاقتراع بحماسة كبيرة.
أما المشاهد الذي لم يتعرف سابقاً على زيلينسكي الممثل فيكتشف ممثلاً كبيراً كان في إمكانه، لو استمر في المهنة، أن يحقق نجاحاً هائلاً في عالم التمثيل، التلفزيوني والسينمائي، عالمياً. فهذا الأستاذ البريء الذي لا يجيد التزوير يؤدي أدواراً عدة داخل الدور الرئيس المكتوب له. ممثل ينتقل من موقف إلى آخر بخفة وبراعة، يوظف جسده ووجهه خير توظيف، ويجيد التعبير بحركات يديه وملامح وجهه، ويعيش اللحظة أمام الكاميرا بعفوية تامة وصدق: يركب دراجة، يغني، يرقص، يتنكر، يمارس الرياضة في النادي، يخلع بنطاله، يقرأ مجلة جالساً على كرسي في الحمام يقضي حاجته، يحمل رشاشين، ويطلق النار منهما، يقفز على المنبر، يغامر على الطريق.
هل كان الممثل زيلينسكي يتوقع أنه سينتقل من عالم التمثيل إلى عالم السياسة، بل الرئاسة تحديداً؟ ربما، ولكن هل كان يعلم أن هذا الرئيس المستقيم والوفي الذي أصبحه، سيواجه مثل هذه الحرب الشرسة؟
من يشاهد الرئيس زيلينسكي على شاشات الفضائيات، يخطب أو يعقد لقاءات في مكتبه، أو يتجول في الشوراع ويتنقل بين الجبهات، ببسالة وشجاعة وتواضع كلي، يدرك أن هذا الرئيس الذي أجاد التمثيل في المسلسلات، لا يجيد التمثيل بتاتاً في الواقع. إنه رجل الرئاسة الذي لم ينسَ لحظة أنه ابن الشعب وخادمه، ولو في ساحات المعارك.
عبده وازن: اندبندنت عربية