سمر نور تخلط الأساطير وألعاب الفيديو في عالم واقعي

 

\"\"

ليس هناك عالم ثابت في رواية \”تماثيل الجان\”( دار المحروسة- القاهرة ) للكاتبة المصرية سمر نور، فكل ما يُسرد عن الأبطال والأحداث، يمكن نقضه للبدء في رؤيته من وجهة نظر مختلفة، فالوقائع لا ينفصل آنيها الحاضر عن الماضي المجنون المغزول بالأساطير؛ فالواقع هنا غير صافٍ إطلاقا، يعكس حالة من الذهانية المسكونة داخل الأبطال جميعا. يحكم العمل مجموعة من الخطوط المتداخلة معا، في شكل يصعب فصله، بين الفانتازيا والعبث والجنون، والهوس التكنولوجي، تمضي الشخصيات جميعها باحثة عن وجودها الواقعي والمتخيل، وكل منها يستدعي الآخر ضمن  علاقة مهتزة بالعالم:  عمر، الجني، دنيا، لكل منهم تخيلاته وحقائقه اللاصيقة بهويته، التي لا يعرفها الآخر والمختلفة بالضرورة عن ما يمكن توقعه.

تتكون الرواية من ثلاثة عشر فصلا، يتبادل السرد عمر والجني، وتبدأ وتنتهي بفصل يحمل عنوان \” ما رواه عمر\”، تُمثل  البطلة دنيا العنصر النسوي الحاضر الغائب في الرواية، يرتبط بها جوهر وجود \”الجني\” الذي جاء إلى هذا العالم من أجلها، ويرتبط بها عمر أيضا، لكنها تظل غائبة بشكل قسري، يجعل من  غيابها أكثر إيذاء على المستوى المادي والمعنوي بالنسبة لكلا البطلين. فمن هي دنيا التي  يبحث عنها الجني ويثق أنها ستعود إليه، كما يمضي عمر حبيبها  محللا الافتراضات العقلية لغيابها، كأن يكون مرضه لغامض هو الذي قادها للرحيل. يعرف الجني طفولة دنيا منذ لحظة ميلادها، يحكي عن عالمها الطفولي، عن ماضيها المرتبك بكل ما فيه، بينما عمر يرتبط معها باللحظة الآنية المعاصرة التي انشطرت فيها ذاتها، بين امرة حقيقية تمارس الحياة بكل صخبها وثوراتها واضطرابها، وأخرى تنزلق إلى عالم ألعاب الفيديو كي تخترع لعبة وتبيعها للشركة المنتجة.. هكذا تُشكل دنيا ذاتا أخرى منسخلة عن الواقع ومشتبكة مع كل ما يمنحه الخيال من ترف، فإلى أي منهما تنحاز في  حضورها واختفائها ؟ إلى واقع عمر بكل دلالات علاقتها المحسوسة معه بما فيها من هزيمة في الجسد والروح، أم إلى خيالات يتآخى فيها العدم والوجود والفن، في تضافر تحدسه دنيا دون أن تقدم له تفسيرا سوى في اندفاع  شغوف بتلوين القواقع من جهة، ونحو تكنولوجيا غامضة تفصلها عن الحقيقية، من جهة أخرى.

حقيقة اللعبة والأسطورة

من المهم التوقف عند مستويات اللغة، إذ تمضي في أكثر من اتجاه، تبدو اللغة واقعية وصفية ومضطربة مع حديث عمر ، فيما تنغمس في تلقائية شاعرية مع بوح الجني. هذا التميز على مستوى اللغة ساعد في التمهيد أيضا لتداخل المضمون الحكائي، وفي حضور أجواء العالم الافتراضي مع ألعاب الفيديو التي تتسلل  إلى الحكاية فتنسج شبكة من العلاقات المتخيلة.  يمضي هذا النص في محاكاة مختلقة للعالم من حولنا، لا يتجاهل أي تحول سياسي أو اجتماعي او تكنولوجي لاهث يسربل حياة البشر، إذ ليس من حقيقة مجردة مهما حاولنا تبني أي وجهة نظر، فالحقائق مسكوبة  في بوتقة من الشك المجرد غير المنحاز إلى شيء، فالمرض والغياب والاختفاء والوهم، حقائق موضوعية  تحضر لتكشف عن مدى الهشاشة الفادحة التي تسكن الأبطال وتحكم حيواتهم.

تشتبك الرواية مع أسطورة \” البن والحن\” الذين سكنوا الأرض قبل البشر، هذه القصة التراثية تتواجه مع حقيقة المركزية البشرية في هذا الكون الشاسع، والقدرة على مسائلة  ما توصلنا إليه من علوم ومعارف لم تمنحنا إجابات تامة على أسئلتنا. وتبدو شخصية \”الجني\” أكثر حساسية وانسانية من البطل عمر، الذي يبدو في بعض المواقف نموذجا نمطيا للرجل التقليدي في كل هزائمه وانكساراته  ورؤيته للمرأة،  وطريقة تعامله معها، وطبيعة ارتباطه بها.

\"\"

         الكاتبة سمر نور

تقوم دنيا بإعداد الفيديوهات عن فلسفة ألعاب الفيديو المأخوذة بها حتى النخاع، بهذه الطريقة يلتقي عمر بها، يقع في غواية صوتها وهي تشجع اللاعبين على تكرار اللعبة قائلة : \”يمكنك أن تحاول مرة أخرى\”، وترتبط بالقواقع ولوحات التشكيلي عبدالهادي الجزار، ومن المعروف عن هذا الفنان انجذابه لعوالم ماورائية تحضر بشكل جلي في لوحاته، من هنا تتجلى  في الرواية رمزية حضور \”القواقع\” التي تحبها دنيا وتعمل على تلوينها بالأحمر، وترتبط بلوحة \” عاشق من الجن\”.. هكذا يجد القارئ نفسه أمام تقاطع ثُلاثي، يجمع بين دنيا وعمر والجني، عبر استدعاء اللعبة الفنية في الرسم والألوان لتربط بين الابطال. يقول عمر: \” لوحة آدم وحواء للفنان نفسه، حيث القوقعة تحت أقدام آدم العاري، وهو يحتضن حواء العارية، وبينهما حيوان عجيب، القوقعة توازي الانسان الأول بالنسبة للقواقع الملونة المتناثرة في كل مكان بالشقة الصغيرة، كأن دنيا استنسخت امتدادات قواقع الجزار، وصبغتها بألوان الطبيعة، صار الحائط المواجه للسرير مزعجا بالنسبة لي، لم أخبر دنيا بذلك حتى لا تظنني خائفا مما لا أؤمن به\”

ثمة لعبة تنبني عليها الرواية في وجود خيط واه بين الحضور الجسدي للأبطال، والحضور الدلالي،حيث هناك علاقة ملتبسة مع الجسد، عمر مثلا يعاني من مرض غامض ليس له اسم، مسامات جسده تنزف دما لا يراه سواه، ولا تفسير منطقي للأمر، لذا يفكر بشكل مراوغ في اللجوء لتفسيرات غيبية لا يؤمن بها. دنيا يفوح من جلدها رائحة عطر غزل البنات التي تشد عمر إليها وتستدعي داخله طفولة بعيدة، فيظل حضور جسد دنيا آسرا بالنسبة له، أما الجني فليس له جسد ولا وعي، أمرته \”مولاته\” دنيا بأن يسكن التمثال، وهو منذ ذلك الحين يرى  وجوده من خلالها، رؤيته للعالم  لا تنفصل عن رؤية دنيا، هي التي أخبرته أنها كانت معه قبل أن  يتكون العالم ، حين كان هناك غيمةً، و كان العدم، ولم تكن هناك أفكار أو معانٍ، لنقرأ : أنا مسجونٌ داخل تمثالٍ، كان سكني فأصبح محبسي. في البدء، لم أكن أعرف معنًى لـ \”أنا\” تلك، أتهادى برِقَّة النسمات، أو أُحطِّم الشبابيك والأبواب كعاصفة، ولا أعي أنني فعلتُ ذلك. في مسافاتٍ لا أعرف مداها، عِشتُ زمنًا لا أستطيع تقديره، وكيف أفعل! فالمكان أو زمان حيث كنت لا شيء سوى الخواء والصمت، لم أكن أعرف أنه خواء، أو أن هناك ما يُسَمَّى بالصمت، هكذا علَّمتني \”دنيا\” بعد أن أَن أسَرتني بعينيها.\”

تملك دنيا، وبما يحمله اسمها من مدلول، تأثيرا قويا على عمر وعلى الجني، يخاطب عمر الجني قائلا : \” لا أملك أن أعصي أمرها أيها الغريب، ولا أعرف خريطتي من دونها\”. فالجني يدرك وجود عمر وارتباطه بدنيا، في الوقت الذي لا يظل عمر محبوسا ضمن حدوده الجسدية وحواسه الخمس، عمر لا يؤمن بالغيبيات، ولا يمنح أي تفسير غامض للواقع، هو يقتنع بما يراه فقط.

تطرح الرواية أيضا صورة متشظية عن الواقع المعاش في مصر في تداخل طبقاته، واختلاف قناعاتها الحياتية وردود أفعالها على ما يدور حولها، هناك الشيخ محمد الذي يدعي امتلاك قدرات خارقة، وياسمين صديقة دنيا ذات الساق المعدنية، وريم الشغوفة بالتصوير والحرية،أيضا  والد عمر الذي يُمثل الجيل الأكبر وقد مُسحت ذاكرته نتيجة الزهايمر، وحفيده زياد، الذي خسر جولته مع الحب، بينما عمر الذي بلغ الأربعين من عمره ينتظر شروق الشمس بشغف الموت.

في الفصل الأخير يكون على عمر أن يؤكد أو يدحض نبؤة الشيخ محمد الذي أخبره عن موته الوشيك في تلك الليلة، لذا يقرر الانغماس في تجريب لعبة تماثيل الجان التي أطلقتها الشركة في نسخة تجريبية، واللعبة فيها حكاية الأرض كما سُجلت بصوت ثلاثة مخلوقات، سكنوا الأرض عبر العصور: كائنات النور والنار، كائنات الماء والطين، وكائنات الحديد، ولا منتصر في هذه اللعبة، لأن المنتصر مهزوم. تتداخل الأساطير في اللعبة  بين \”البن والحن\” و \”بائع غزل البنات\” و \”الرجل الملون\” و \”زارعة  الورد\”.

ربما  يبدو لقارئ  رواية \” تماثيل الجان\” أن ثمة ابتعاد بين خطوط الحكايا والعوالم المتشعبة فيها، غير أن كل واحدة منها تؤدي إلى أخرى في سياق شبكة العلاقات التي عمل الفن على تذويب الحدود الفاصلة بينها.

لنا عبد الرحمن

independentarabi