حمل عام 2022 للكاتبة العراقية عالية ممدوح نتاج ثمار رحلتها الطويلة مع الكتابة. مع بداية العام صدرت الترجمة الفرنسية لروايتها \”التشهي\”، التي منعت من التداول عند صدورها بسبب حساسية موضوعها، كما أنها من الروايات التي تتحرك على مساحات تاريخية طويلة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وجدار برلين وانهيار اليسار. ومن خلال هذه التغيرات طرحت \”التشهي\”، فكرة فلسفية حول العجز، عجز الرجل عن إيجاد ما يبرهن عن هويته البيولوجية، وعجز الفرد عن تحقيق طموحات سياسية واجتماعية كبرى، بدت في مرحلة ما قابلة لأن تكون أمراً واقعاً، لكنها انتهت بالإخفاق.
يحضر الغوص عميقاً وراء فكرة \”الإخفاق\” أو \”العجز\”، في معظم روايات ممدوح، بصيغة أو بأخرى، وكانت ذروة تجلياته أيضاً في روايتيها \”الأجنبية\” و\”التانكي\”. في \”الأجنبية\” كان العجز يتجسد مع مواجهة المنفى واللغة الغريبة، وفي \”التانكي\”، حضر بوضوح انكسار المثقف العربي أمام امتحان الوطن الذي يطرد أبناءه.
السخرية المريرة
تكتب صاحبة \”محبوبات\” بنوع من السخرية المريرة والحادة، تستدعي مفارقات وتدمج بين أكثر من قضية محورية، واضعة أبطالها أمام المرايا التي تخفي اللعنات. في كتابتها نرى بطلاتها مثل \”هدى\” الوقحة والمقاتلة في \”حبات النفتالين\”، و\”صبيحة\” في رواية \”الغلامة\” التي هدر دمها، فهي تجاوزت الحدود المسموح بها في المرجعيات جميعاً، و\”سهيلة أحمد\” في \”المحبوبات\”، ثم \”عفاف أيوب\” في \”التانكي\”، التي اختارت التمرد والاختفاء. إنها أرواح تتناسخ عابرة جميع الأجناس الأدبية والسياجات، ومخربة في طريقها الموانع، تقودها حرية فكرية لا حدود لها إلا في محاولة البحث عن الحقيقة المخاتلة.
في الحوار مع عالية ممدوح، التي أصدرت حتى الآن تسع روايات، كان التساؤل أولاً عن رواية \” التشهي\” المثيرة للجدل، وكيف للعجز المطروح في الرواية أن يتقاطع الآن مع التحولات الحياتية الكبرى التي تمتحن فكرة الذكورة والأنوثة، فتضع كليهما على المحك، مع وجود صدامات جندرية واضحة، بخاصة في الغرب؟- فيسبوك)
خلال تكريمها مع الناقد السعودي معجب الزهراني
توضح قائلة \”ذكرت في مناسبات شتى وأنا أعيد مطالعة (التشهي) التي صدرت في عام 2007، أنها بدت لي كمحرقة للجثث وقد تلاطمت فيها أفكار ومفاهيم ونظريات في الأيديولوجيا التي تقوضت، واللغة المعرضة للاندثار، والحب المغرر به، ثم حضرت رائحة العطن والانحلال الآتية من الوطن الذي كان يحتضر كما هو البطل (سرمد برهان الدين)، الشخصية المركزية في الرواية. فنياً لم أقف أمام محاولات تصنيفي كروائية لتنظيرات نقدية في الذكورة والأنوثة، لهذه الرواية ولعموم ما كتبت. (التشهي) رواية تتحدث عن مهزومي التاريخ، وأنا ابنة لم أتصالح يوماً مع أي نوع من أنواع الهزيمة على أكثر من صعيد. فكرة اختفاء العضو الذكري لسرمد وهي الأدق فكرياً، وليس العجز ولا الإخصاء، لأنه يضللنا بمرض عضوي. إنه يتوازى مع اختفاء المدن والأوطان، بمعنى أنه لم يعد البلد مقياساً للوجود، وإنما الشك به بسبب الإبادات الجماعية لأجيال عراقية وعربية وثقها كتاب أميركيون قبل أي روائي عربي أو عراقي. كان عليَّ استخدام سقوف مرتفعة من السخرية المرة لكي أجعل من (سرمد) وباقي الشخصيات في مقدورهم التخفيف من الخذلان المميت. فالمحزون الحقيقي كسرمد الذي امتلك الكثير من الهزء من حاله لم يعد يعرف أين سيتوقف كل هذا الإذلال لجميع ما حدث له وللعراق، ومتى\”.
ثمة تركيز على بؤرة الذات نجده في كتابة عالية ممدوح، يتشكل جوهره عبر طرح أسئلة وبسط تجارب حقيقية تقدم الهزيمة بلا استحياء، في كتابة يمكن اعتبارها مراجعة عميقة للواقع والاختيارات الفردية بخاصة مع رواية \”التانكي\” التي لاقت نجاحاً ملحوظاً. هذه الرواية مكتوبة مثل سائر روايات ممدوح عبر تقاطعات حياتها مع أشخاص عرفتهم من كثب، ولكن في \”التانكي\” ثمة حضور تخيلي مدمج مع عتاب تاريخي ثقافي، وهذا الأخير بدا أكثر تأثيراً في النص. فهل يمكن القول إن هذه الرؤية تشكلت بعد سنوات من الاغتراب المكاني والزماني في باريس؟
وحشية بشرية
تقول عالية ممدوح في هذا الصدد \”أود أن أوضح أن التانكي هو خزان معدني للمياه، وقد يشير إلى وحشية القلب البشري، وربما هو خزان كوني قد تجمع فيه أدلة على شرور العالم الواقعي، كما أن التانكي ربما يصلح أن يكون صيغة قضائية أو قانونية تنظم لنا بعض الحقوق. ومقابل هذا قد تزهق لنا أرواح دول تامة، وقد أبدع الناشر الشاعر خالد الناصري بالغلاف، والذي أصرت عليه الدار الإسبانية، أن يكون غلافها أيضاً، لحمولاته الفكرية المتعددة. المرة الأولى أستعين باستحضار شخصية حقيقية هو الصديق والمعماري العراقي الجليل معاذ الألوسي، لكي يرفع عني حظر نقل جميع شخصيات التانكي إلى فردوسه المذهل – المكعب – دار سكناه الذي دمر أجزاء منه المارينز والميليشيات الطائفية. لقد ظهر لي – مكعبه – في كتابه الأخاذ (شارع حيفا) أن المكعب ذلك يصلح أن يكون (برج بابل) حديثاً وعاصمة للغرام والجمال والفنون والموسيقى والرسم. كانت (عفاف أيوب) الشخصية الأساسية في الرواية تريد كما أراد غوته (أن تتحول حياتها إلى عمل فني) ولكن بأي ثمن\”.
لعل الاقتراب من القضايا الواقعية يدفع إلى التساؤل عن التخييل الروائي في كتابة عالية ممدوح. تقول \”ما زلت أتربص بحالي وبالدرجة الأولى بالتالي بجميع الشخصيات التي استهوتني جداً، على الخصوص، تلك التي تعلن عن هشاشتها وتبرمها بلا تردد، وهي مقاتلة حد انقطاع النفس. تأرجحت شخصياً بين فشل وإخفاقات لا حصر لهما، ونجاحات نادرة، فالنجاح سحر مميت. كان جورج باتاي يسمي نفسه (مساح الكارثة). في المعنى الضروري الذي يخصني إذا سمحت قدرتي الصحية الهشة، القيام بمسح تفكيكي سردي للطبقة السياسية والحزبية في جانبها الفاحش والبذيء والخائن. أرى الكتابة لليوم هي أعلى مراحل الدعم الذاتي، ونحن نعتقد جزافاً أننا نستحضر الشخصيات الروائية ونستقبلها بالبشاشة المطلوبة، لكن بعد كل هذه الأعوام من محاولات التأليف أرى أن من يمسك بتلابيب المؤلف هي الشخصية الروائية. البطل الروائي يمثل السلاسة التي حافظت وتحافظ على جميع المؤلفين وعبر التاريخ، إنهم الذين يحترمون حرمة البيوت أو يهتكون قانون القمع والقهر. وما الروائي إلا إحالة لتلك الشخصيات التي تحولت إلى عائلات ومساكن وبيوت تسكنها هذه المؤلفة أو ذاك المؤلف، ولولاها لتعرض جميع كتاب هذه المعمورة للبطالة. الروائي رمزياً ونتيجة الخيلاء والغطرسة يعتقد أنه الوالد الروحي والبيولوجي لهذه الشخصية أو تلك، ولا يعترف بأنه مجرد نفر من الحاشية\”.
تجربة المدن
أسأل عالية ممدوح عن المدن، التي عاشت فيه وتأثرت بها، وأثرت في كتابتها، فتروي \”لم أكتب عن بيروت أسطورة العزيمة، مدينة اللذائذ المتواصلة والمتع المتوالية في جذوتها وجنونها، وهي معلمتي الأولى بجميع الأسماء التي تعرفت إليها، وصارت بالتالي مقدمات في تاريخي الشخصي والثقافي. فيها أغرمت وتزوجت وأنجبت ولدي الوحيد، وفيها واصلت دراستي العليا لولا الحرب الأهلية. لا يمكن أن تضبط على هذه المدينة جملة صحيحة نافعة أو بليغة فهي تتجاوزها. لم يتسن لي الكتابة عنها حتى الآن، ولا عن الرباط، التي قلت عنها في أحد الحوارات، وليغفر لي الأصدقاء المغاربة الأعزاء، إنها أسأم عاصمة عربية. باريس وضعتها في أعلى البرج الكافكوي في كتاب (الأجنبية) وصولاً إلى لندن\”.
كانت عالية ممدوح قد بدأت بكتابة نص روائي – سيري، فهل ما زالت الكتابة تمضي بها صوب هذا المرفأ؟ تجيب \”عدت لأوراقي في روايتي التي توقفت عنها بعد محنتي الصحية الجديدة والقديمة في وقت واحد. وضعت اليد كما يقال على أنواع من الاستغاثات من المرض، فهو يهتك أسرارك ويفتك بثباتك الصوري، ويغويك إن كنت قادرة على إعادة اكتشاف ذاتك. فالمرض القادر الوحيد على تقديم مشروع استكمال ما بدأته أثناء الصحة الكذوبة، فسخرت من حالي وأنا أطلق عليها اللقب اللطيف، أنت أرملة الصحة المضللة\”.
لنا عبد الرحمن
independentarabia