يترك الكاتب حاتم حافظ كل اغواءات الكتابة عن الواقع المصري، ويمضي في \”كقطة تعبر الطريق\” مع مغامرة روائية تنغمس في مآلات الحرب السورية، في جانب منها، ومع الاغتراب الفردي في مواجهة العالم في جانب آخر. أبطاله مجموعة من الغرباء مرهقون من الوجود نفسه – فيزيائيا ونفسيا- تتقاطع مصائرهم في مدن، شوارع ،حانات، أرصفة الطرقات، محطات القطار، سيارات التاكسي. يمرون بها ربما دون أن يتذكرونها مرة أخرى. عالية امرأة سورية ثلاثينية، ليلي ابنتها في الرابعة من عمرها، ميشيل رجل فرنسي أربعيني، أولجا من بيلاروسيا تجاوزت الأربعين بسنوات، نعمة شابة تونسية مهاجرة إلى أميركا، إيهاب أو باها مهاجر مصري في العشرينات، سهيلة شاعرة عربية غامضة.
يمكن من خلال تفكيك العنوان، الذي يبدأ بأداة التشبيه، ثم حضور حالة العبور في دلالة واضحة على الانتقال بين مكان وآخر، ادراك مدى محدودية الأماكن كلها والتوق للانعتاق منها وصولا لضفة أخرى، حيث هذا المعنى يتكرر على مساحة النص الذي بلغ 263ص. جميع الأبطال يسعون للعبور مكانيا ونفسيا، سواء كانوا منتمين إلى المكان أو غرباء عنه. هذا التطلع المرهق والشاق يجعل الواقع الراهن مرفوضا، والأمل يرتبط بالمكان المنشود أيا كان. لكن ما ثمن لحظات العبور تلك؟
يمكن تلقي هذا النص على أكثر من مستوى، يجد القارئ العادي فيه حكاية مشوقة وكاشفة لأماكن ووقائع أخرى من العالم، ويجد فيه المثقف مقاربات تطرح تساؤلات جوهرية عن اغتراب الذات والعلاقة مع الآخر، البحث عن الأمان في مقابل الرغبة بالحرية، والانغماس أيضا في تقديم رؤى عن الحياة لنقرأ :\” يمكنك من هذه اللحظة البحث عن هذا الوجود. وكقطة شارع يمكنك عبور الطريق لأن هناك احتمالا مهما كان ضئيلا في أن تجدي في الجانب الآخر من الطريق ما لم تجدينه في جانبك.\”، لكن العبور يعني أيضا احتمال الموت خلال الرحلة.
تنقسم الرواية إلى فصلين، الأول \”امرأة غاضبة، رجل ضجر\” ويتناوب فيه السرد \” عالية\” و \” ميشيل\”، الفصل الثاني \”قطط برية\”، يجري السرد فيه عبر راو عليم. استفاد الكاتب من تقنيات السيناريو في المشهدية والتقطيع، والفلاش باك، والمونولوج الداخلي، وهذا يتضح أكثر ف الفصل الأول.
انزياح الأنماط
سعى الكاتب في الرواية إلى الابتعاد عن الصورة النمطية سواء بالنسبة للمرأة العربية، أو الرجل الفرنسي، أو أولجا اليهودية، ولتوضيح هذه الفكرة سوف أتوقف أمام ثلاث مشاهد بعينها. تكرر عالية في أكثر من موقف أنهم يظنونها \” باريسية\” ليس فقط بسبب لكنتها بل بسبب عبوسها، إلى جانب هذا يبدو سلوكها نحو المرأة العجوز في رحلة القطار حين تشتكيها إلى رجل الشرطة بتهمة الازعاج، لأن المرأة العجوز أدارت معها حوارا قصيرا. أولجا البيلاروسية اليهودية تتعاطف مع عالية، وتستضيفها في بيتها، وتدافع عنها أمام فرنسيس رغم أنها لا تعرفه. أما ميشيل فيبدو سلوكه مثالي ليس فقط في طريقة تعامله مع عالية، ورعايته ابنتها ليلي، بل أيضا في مواقفه نحو الفتاة السويدية زيلما ومساعدته لها، وانصاته لنعمة الفتاة التونسة التي التقاها صدفة.
انشغل حافظ في نصه بمحاولة تجميل الواقع المشوش، مواجهات الشرق والغرب، عبر اختياره لشخصيات ايجابية ( ميشيل- أولجا) اتسمت بميزة \” التعاطف\”، أو الرغبة الباطنية بوجود التعاطف في عالم شديد القسوة ولا يرحم أحدا. في مقابل توتر الشخصية العربية واهتزازها ( عالية- سهيلة- نعمة)، وإن كان هذا يعكس في جوهره الاضطراب الواقعي الناتج عن الحروب والثورات التي حصلت مؤخرا، سواء بالنسبة لعالية الهاربة من الحرب، أو نعمة الفاقدة للانتماء. أو سهيلة التي تؤمن بضرورة رتداء الأقنعة طوال الوقت.
تصف نعمة نفسها قائلة : \” سوف أعود إلى تونس ليس فحسب من أجل الصلاة عند رأس أمي، لكن أيضا من أجل البحث عن مرفأ للرسو. لعلي تلك القطة التي تجد على الجانب الآخر من الطريق ما لم تجده على جانبها\”، لكن تونس التي في خيالها لا تمنحها السكينة، ويكون عليها العبور من جديد. لا يطال العبور فقط الأماكن، بل الهويات أيضا، باها الشاب المصري الذي غادر قريته الفقيرة وفر عبر البحر إلى الشواطئ الايطالية ومنها إلى فرنسا، يضطر إلى تقمص شخصية شاب هندي للحصول على عمل، فصاحب دار النشر لن يوافق على توظيف عربي لأنه يخاف أن يكون إرهابيا.
في الفصل الثاني \” قطط برية\” يمضي السرد عبر راو عليم، ويحدث تصاعد في الأحداث مع ظهور شخصية \” سهيلة\”، شاعرة عربية تتداخل فيها عدة هويات، وترتبط بعلاقة غامضة مع صاحب دار النشر فرنسيس التي ستعمل فيها عالية. شخصية مركبة تقدم نموذجا واقعيا لاختلال الشخصية العربية في الغرب، وضياع هويتها.
بدت معظم شخصيات الرواية ثابتة نفسيا عند محور محدد منذ البداية، عالية تعاني من القلق وعدم الثقة وخائفة من الفقد، هي التي خسرت بلدها بسبب الحرب ووجدت نفسها وحيدة مع طفلتها في فرنسا، تخاف أن تفقد ميشيل وفي نفس الوقت تود هجره، حوارات الطفلة ليلي التي تجريها مع ميشيل تتجاوز عمرها بكثير (أربع سنوات). أولجا التي فقدت زوجها بعد انتقالها إلى باريس وارتبطت بعلاقة عاطفية مع صديقة لها، تقدم نموذجا آخر لتعاطف الغرباء حن تساعد عالية رغم معرفتها لها قبل ساعات قليلة.
بدت شخصية ميشيل أكثر ايجابية وثباتا، لكن في نفس الوقت غير مبرر في اختيار مواقفه الإنسانية، نحو عالية وزيلما ونعمة هل هو انحياز انساني نحو الأضعف؟ أو اختياره مواجهة مباشرة في بعض المواقف لنقرأ :\” بغض النظر عما كنتما تتحدثان بشأنه لكن وصف الإرهابي بالعربي لا يفتقد فقط للياقة لكنه يعرضكما للقانون، قال ميشيل وهو يؤكد على كل حرف لأنه فكر في الظهور بمظهر المحامي\” ، في الوقت الذي تظل رؤية عالية له مشوشة ومهتزة حتى نهاية الرواية، هي تنوي هجره، لكن هذا لا يمنعها من أن تترك ابنتها ليلي برفقته بسبب اضطرارها السفر لإجراء مقابلة مهنية.
اختار الكاتب أن تدور الاحداث في أسبوع عيد الميلاد، وأن تتمحور حركة الأبطال تصاعديا نحو ليلة العيد، لتتقاطع مصائرهم مجتمعين في تلك الليلة داخل منزل أولجا، عالية ميشيل ليلي، أولجا، وباها، ثم لاحقا اللقاء مع سهيلة في ذات الليلة، وفي الجزء الأخير من الفصل لقاء عالية مع أسرة ميشيل. يمضي جميع الأبطال في مسارات متجاورة، يلتقون في مدينة باريس، وكل منهم لديه تصوره الخاص عن المدينة ، حيث كل فرد يبحث عن ذاته وعن الآخر في شوارع باريس وأحيائها. ثمة مساحة من التصورات الافتراضية بين الأبطال عن بعضهم البعض، مساحة ناتجة عن احتجاب جوانب نفسية مهمة لا تبدو واضحة تماما، أو بسبب سيطرة فكرة ذهنية تجسد اسقاطا ما على الآخر، لذا يبدو كما لو أن الأبطال جميعا تفصل بينهم مسافات اجتماعية ونفسية مرئية بوضوح لكنهم يرغبون بتجاهلها أو عبورها، سعيا لايجاد الواقع- الحلم ،على الضفة الأخرى.
لنا عبد الرحمن
independentarabi