لماذا تحتاج إلى الفلسفة؟

\"\"

مشروع التكوين المعرفي ينهضُ على الاهتمام بمجالات مُتعددة وتصبُ في تشكيلتهِ روافدُ فكرية وفنية وأدبية لذلك فإنَّ الفلاسفةَ قد ناقشوا العوامل المؤثرة على تركيبة الشخصية الإنسانسة بأبعادها المُختلفة وما يساهمُ في بناءِ النسق العقلي، وكونه كائناً اجتماعياً يتَفاعلُ الإنسانُ مع مواصفات بيئته والفضاء الذي يتحركُ فيه وبالتالي تلعبُ طبيعة الأمكنة بخلفيتها المِعمارية والفنية دوراً لافتاً في تنشئةِ مدارك المرء ومستويات تذوقه، بدوره تنبه الكاتب السويسري آلان دوبوتون إلى هذه الحقيقة لذا اشتغلَ في كتابه الجديد \”مفكرون عظماء\” على تدوين دليلٍ يغطي حقولاً متنوعةً من الفلسفة إلى علم الاجتماع والاقتصاد وصولاً إلى العمارة والفن ومنْ ثُمَّ يلتفتُ إلى مهنة الأدب من خلال رواده، لافتاً إلى دور هؤلاءِ في الارتياد بالإنسان نحوَ آفاق أوسع من التأمل في التحديات والإحساس بقيمة الحياة، وبالطبع أنَّ الكلام عن الفلسفة يبدأُ من مهدها اليوناني حيثُ شهِدَ العقلُ مرحلةَ القطعية عن التفسيرات الخرافية وانصرفُ النشاط العقلي إلى تشييد منظومةٍ من المقولات المُنفصلة عن الحقل الأسطوري، وبذلك تمَّ تأسيس مايسمي بالبيئة المعرفية في اليونان.وبالطبع كان الجدلُ أسلوباً أمثل للتباحث الفكري لدى الفاعلين في الدورة الفلسفية، الامر الذي زاد من مرونة الفكر وقطع الطريق على الجمود إلى أنْ نشأت بذور الاتجاه النقدي.وأصبحت الفلسفة مزاجاً غالباً في الحاضنة اليونانية.ولم تنحصر شحنات هذه الانطلاقة العقلية في حقبة تاريخية أو مجال جغرافي مُحدد بل كان لها امتدادُ في الحلقات الحضارية اللاحقة وما إنَّ ينفتحُ المناخُ على الحراك الفكري حتى يكونُ الحديثُ متجهاً نحو أعلام الفلسفة اليونانية.

البدايات

يتخذُ دوبوتون مسلكاً عملياً في التعاطي مع المبحث الفلسفي، ويتفادى التجريد في نظرته إلى المباديء الفكرية وهذا الشق العملي له جذورُ في تاريخ الفلسفة. هذا الجانب لبس غائبا في الاشتغالات المعرفية.لذلك يهمُ صاحب \”عزاءات الفلسفة \” البحث عن الممر الذي تعودُ من خلاله الفلسفةُ إلى صميم الحياة.معايناً مايفيدُ الإنسان المُعاصر على مستوى الصحة الفكرية والإدراكية في النصوص المؤسسة إذ يبدأُ رحلته مع العظماء بالافتتاح من المحطة اليونانية.متأملاً في آراء أفلاطون الذي يقترحُ أفكاراً أربعة لتحقيق مايسميه بحالة \”أوديمونيا\” أو الاكتمال والرخاء البشريين.فبرأي صاحب \”الجمهورية\” يجبُ على المرء إعادة النظر بالمسلمات وما تسرب إلى عقله من الأفكار جراء التأثر بالوسط الاجتماعي ماحظي بالاهتمام لدى أفلاطون ليس التعبئة الحربية والقوة البدنية على غرار النمط السائد في المجتمع الإسبرطي بل أراد معرفة الأدوات التي تحسنُ المجتمع وتضع الفردَ على طريق الاكتمال وهذا ما يستدعي التحول في المنهج الحياتي بحيثُ لابدًّ من تحديد القواعد الجديدة ويأتي في المقدمة البحثُ عن أبطال جددُ لأنَّ المشاهير لهمُ التأثير على نظرتنا إلى العالم وتبرمجُ تصرفاتهم شكل التفكير ومسلك الحياة طبعاً كان الفيلسوف الأثيني محقاً في هذا الرأي إذ يكشفُ ما يقعُ عليه النظر من تصاعد الأسماء وتحولها السريع إلى شخصيات عامة ومؤثرة عن ظاهرة التجهيل والأفول القيمي.

ولاتغيبُ الرقابة في برنامج أفلاطون على الرغم ماتثيرهُ الكلمة من القلق بشأنِ تضييق الخناق على الحرية لكن حماية العقل من حملات بائعي الآراء تكتسبُ أهمية كبيرة بالنسبة للفرد.كما أنَّ التعليم وفق الخط الافلاطوني لايقتصرُ على تعلم الرياضيات واللغة بل فضلاً على ذلك ينبغي أن تهدفَ العملية إلى غرس الشجاعة ومباديء المنطق ومهارة ضبط النفس في شخصيةِ المُتعلم. لايورثُ الطفلُ صفات أهله الشكلية والجسمانية فحسب بل قد ينتقلُ إليه ماتحملهُ البيئة الأسرية من الأجواء المرضية على المستوى النفسي لذلك لايصحُ حسب نظرة أفلاطون إهمال أهمية التربية المتوازنة وقد يتكفلُ بهذه المهمة من يتحلى بالحكمة والسداد في الرأي. بدلاً من الآباء والأمهات.يحلُ أرسطو ثانياً في سلسلة الفلاسفة والمفكرين الذين يعالجُ دوبوتون مبادرتهم المعرفية مُستقصياً البعد العملي في محتوياتها.

ومن الواضح أنَّ أرسطو قد انشق عن المثالية الأفلاطونية دشن بتأسيس الليسوم مقابل أكاديمية أستاذه.

وكان يحبُ المشي برفقة تلامذته خلال مُطارحة الأفكار.

ومن المعلوم أنَّ كتاب \”علم الأخلاق النيكوماخي\” يضمُ آراء أرسطو عن الفضيلة شارحاً قواعد السلوك السليم فبرأيه أنَّ كل فضيلة تقعُ بين الرذيلتين فعلي سبيل المثال أنَّ جودة الحديث والتواصل من مكونات الحياة الحسنة الأمر الذي يفرضُ وجود الحس الرهيف وتطعيم الكلام بالفكاهة ومن لا يجيدُ التعامل بهذا المستوى يصعبُ عليه كسب الصداقات وبالتالي يكونُ مستاءً ومضجراً دائماً كما أنَّ من يفرط في المزح ويسرفُ في اطلاق النكات يجنحُ إلى التهريج إذن فالفضيلة تتمثلُ في خفة الظل وهي التوسط بين رذيلة المزاج السيء والانجرار وراء الدعابات المعربدة.يشيرُ آلان دوبوتون في ذات السياق إلى تصنيف أرسطو لأنواع الأصدقاء.

وما أثار انتباهه عن فتور الجمهور في تعاطيهم مع الأفكار، والحال هذه فقد رأى في فن البلاغة حلاً لهذه المُعضلة.تقعُ في جزءٍ آخر من الكتاب على آراء المدرسة الرواقية وما يقدمهُ أتباعُها من وصفات للتعافي من القلق الذي يتطلبُ التخلي من الأمل والعبور للمسافة الفاصلة بين ما نأمله ومانخشى وقوعه.كذلك فإنَّ التأملَ في مساويء الغضب وما يستتبعهُ من الخطأ في التقدير والرأي من المباديء الأسياسية في الفلسفة الرواقية.

واللافت للنظر في سجل الرواقيين هو الإيمان بالحظ يقول سينيكا \”مامن شيء لايجرؤ الحظ على فعله\” ينصحُ الأستاذة الرواقيون أتباعهم بالانطلاق نحو مدى أرحب في التفكير والتذوق بالتدبر في علم الفلك والمشاهد الكونية.يفتحُ المؤلف حلقة على حياة أبيقور الذي عُرِفَ بفيلسوف الحديقة، وربط بين السعادة والالتذاذ بالحسيات.دون الانغماس في البذخ أو الاستغراق في والاستمتاع يرى أبيقور بأن الغاية التي يريدُ الإنسان تحقيقها من وراء الرفاهية هي الهدوء والسكينة والسلام النفسي غير أنَّ مصدرَ كل ذلك هو الداخل وتصحيح نظرتنا لحقيقة المخاوف وأسباب القلق.

وهنا تلعبُ القراءةُ دوراً على هذا الصعيد كذلك وجود مستمع جيد ربما يكونُ فيلسوفاً أو مُعالجاً نفسياً.يحذرُ أبيقور من مغبة الوعود والإغراءات الزائفة ومن المعروف أن الإعلانات تعزف على هذا الوتر أي تضخم الشعور بالاحتياجات وعدم تلبيتها.

الديمومة

قد يشهدُ الحراك الفلسفي تراجعاً وتبادرُ أطرافُ معينة بالتكهن لنهاية هذا النشاط الفكري، لكن الواقع الإنساني يؤكدُ بأنَّ العودة إلى رحاب الفلسفة حركةُ لاتنطقعُ إلا لتُستأنفَ من جديد وهذا مايُعدُ خصيصة لطبيعة الحقب التاريخية ولم يغِب الحس الفلسفي والمساعي الفكرية حتى داخل أنفاق ماسمي بالعصور المُظلمة.يستعيدُ آلان دوبوتون في إطار رحلته البانورامية أسماءً كان لها دورُ في ضخِ الدماء بأوردة الفكر قبل أن تلوحُ تباشير عصر النهضة.

صحيح ربما الغرض من مزاولة التفلسف لدى بعضهم كان تطويع جغرافية الفكر لمشاريع لاهوتية لكن هذا لايحجبُ الاقرار الضمني بمقام العقل الفلسفي في خضم النقاشات اللاهوتية، لذلك لايمكن التغافل عن منزلة إبن رشد وتوما الأكويني والغزالي وأغسطين في مسيرة الفكر.يذكرُ أن صاحب \”قلق السعي إلى المكانة\” يكتفي بالتلميح إلى فيلسوف قرطبة، أيا يكن الأمر فإنَّ آلان دوبوتون يتابعُ المحطات الفلسفية المؤثرة منقباً عن نفس عملي في مضامين مقولات ميشيل دي مونتاني ولاروشفكو إلى أن يمتدَ نطاق كتابه الموسوعي نحو سبينوزا وشوبنهاور وهيغل كما يفردُ مفصلاً من مدونته للحديث عن كامو وسارتر فأن يكون المرءُ سارترياً فذلك يعني أن يدركَ الوجودَ كما هو عندما يصير مجرداً من أية أفكار مُسبقة.والأهم في اللحظة السارترية هو الالتفات إلى إحتمال التعود على الإيمان الخاطيء ومايعقبُ ذلك من الانسداد العقلي والعمى في الاختيار ومن جانبه يؤكدُ ألبير كامو بأنَّ فلسفته \”دعوة واضحةُ إلى العيش والإبداع وسط الصحراء\” وماينقله المؤلف من الكلام الذي كان يدور بين هيدغر وطالبه إذ سأله الأخير عن الآلية الناجعة لاستعادة الوجود الأصيل فما كان من فيلسوف الكوخ إلا أن أجاب باختصار بأنَّ السبيل الوحيد لتحقيق ذلك هو أن نقضي زمناً أطول في المقابر، يكشفُ عن الخواء الذي يلمُ بالأيام جراء نسيان الوجود.

ويرصدُ ماركس مايعانيه الإنسانُ من الاغتراب في المجتمع الرأسمالي حيثُ لايرى العمال ذواتهم في الأشياء التي يصنعونها والأخطر من ذلك أن الكائن البشري يخسرُ ماهيته ويمكن تعويضه إذا فقد صلاحية الاستعمال، لأنَّه ليس أكثر من شيء من بين عوامل أخرى في قوى الإنتاج.كان ماركس مؤمناً بأن حركة الواقع تسبقُ التنظير الفكري وحجم التحولات في المستقبل أكبرُ من أن تحيط بها فلسفته لذلك يقولُ بأنَّه ليس بصدد كتابة وصفات من أجل مطابخ المستقبل.

يشارُ إلى أن مايقدمهُ آلان دوبوتون لاينتهي بسرد حياة الفلاسفة والتعليق على فتوحاتهم المعرفية بل يغطي التطور الفني والمعماري هذا إلى جانب ماتوصل إليه علماء النفس من إضاءة للعتمات في بواطن الأعماق البشرية إذ فرضت الحياة الحديثة وجود أريكةٍ للتخلص مما يضجُ به رأس الإنسان من الهواجس وكوابيس اليقظة، كما يختمُ آلان كتابه بالحديث عن فوائد الأدب موضحاً رؤيته من خلال تناول حياة نخبة من المبدعين.

وأنت تتابعُ فصول هذا المؤَلَف تدرك بأنَّ حسن التدبر العقلي والاختيار الصحيح والنظرة الصحيحة من الأهداف التي ترمي الفلسفة العملية إلى جعلها مباديء حياتية ومن هنا يتضحُ لماذا نحتاج إلى الفلسفة؟

ميدل إيست أونلاين