ماريو بارغاس يوسا يرثي العالم الحديث في “الرياح”

 

من خلال رواية متوترة، قصيرة، وصادمة بعنوان “الرياح”، صدرت ترجمتها الفرنسية عن دار ليرن l’Herne، يطرح الروائي البيروفي النوبلي ماريو بارغاس يوسا، البالغ من العمر 89 سنة، أسئلة فلسفية وأدبية عميقة حول التأثير المحتمل للتكنولوجيا على الثقافة والتجربة الإنسانية. فهل يأتي يوم يستغني فيه البشر عن دور السينما والمسرح؟ هل يكتفون بمشاهدة كل الأعمال الفنية عبر القبة الافتراضية فقط؟ في عام 2015 كتب يوسا في إحدى الصحف الإسبانية مقالاً مهماً بعنوان “حضارة للعرض”، فند فيه التحول الذي حدث في الثقافة، وكيف أصبحت عملاً ترفيهياً، بدلاً من كونها حضوراً إبداعياً جمالياً.

في “الرياح” يرسم يوسا لوحة متعددة الأبعاد لمجتمع مستقبلي محتمل، عبر لغة روائية مشوقة، حيث يعيش البشر في توازن هش بين الحاضر والماضي والمستقبل، ويسعون إلى الحفاظ على الروح الإنسانية والتواصل الحقيقي، في ظل ثورة التكنولوجيا الرقمية التي تقلب حياتهم رأساً على عقب.

رؤية بعيدة

بطل يوسا رجل عجوز، يعيش في مدينة مدريد، أكمل قرناً من الزمن على سطح هذه الأرض، يقرر الذهاب لحضور العرض الأخير في سينما إيديال، قبل أن يتم إغلاقها. يجد في القاعة ستة رجال، جميعهم من كبار السن، يصفهم بكلمة “أشلاء بشرية”، يقول: “لقد مضى وقت طويل منذ هجر الشباب السينما، لأنهم معتادون منذ الطفولة على مشاهدة الأفلام عبر شاشة الكمبيوتر”. تعلم بطل يوسا معنى الوحدة والضياع في عالم يبدو متلاشياً وخالياً من قيم الثقافة التقليدية. ينظر إلى المدينة من حوله، تلك المدينة التي شهدت في السابق حياة ثقافية حافلة وحركة سينمائية نابضة بالحياة، تحولت إلى مجرد صور نشاهدها على الشاشات، يصف نفسه قائلاً: “أنت الزاحف المجنح، ديناصور، ما قبل الطوفان”.

في طريق العودة يتوه البطل، فلا يعرف سبيل الوصول إلى بيته، يتجول في الشوارع والأزقة محاولاً أن يتذكر أي الطرق عليه أن يسلك، لكن بلا جدوى، فيظل تائهاً لساعات. عبر هذه الشخصية الروائية، العجوز، التي تتجاور مع أبطال روائيين آخرين قدموا رؤيتهم للعالم، يطرح يوسا أعمق مخاوفه الإنسانية والثقافية، فالتقدم التكنولوجي يهدد الضعفاء وكبار السن بأن تزداد عزلتهم حتى يصبحوا غير مرئيين. يقول: “لم أتعرف إلى أي شيء أو أي شخص، ولا حتى الشوارع التي توقفت فيها لأقرأ الأسماء عند كل منعطف، محاولاً معرفة أين أنا. وصلت أخيراً إلى مكان يدعى بويرتا ديل سول. يبدو أنه مكان مهم، مع كل هذا الحشد المتجمهر وعديد من لافتات الشوارع، إضافة إلى الساعة والأعلام ورجال الشرطة ومداخل المترو، لكنني لم أتعرف إلى أي شيء. بمن أتصل؟ ما الذي يمكنني السؤال عنه من دون أن يفتضح أمري؟ لم يكن معي أوراقي الثبوتية، ربما يتم استدعاء الشرطة وسوف يقودونني حينها إلى المركز، يلقون بي في زنزانة، حتى يتم التحقق من هويتي ومنزلي، لم أكن متأكداً من أنني سأخرج حياً في هذه الليلة”.

“الرياح” روايته الجديدة بالترجمة الفرنسية (دار ليرن)

يتنكر يوسا خلف ملامح بطله العجوز، ليقدم سرداً ينتمي إلى عالم الديستوبيا، عبر هذه الشخصية الروائية التي يبدو أنها قضت مضجعه طويلاً، ودفعته إلى الكتابة عن الأخطار التي تمضي إليها البشرية من جانب إعلاء القيم الاقتصادية، مقابل تراجع كل ما يتعلق بالفكر والإبداع والفن. يستعيد بطل يوسا بحزن وأسى شديدين ذكريات العالم المتلاشي، ويتخيل مدينة مستقبلية محرومة من المتاحف والمكتبات ودور السينما، بعد أن أصبحت أماكن الثقافة واللقاء افتراضية تماماً مثل الحب والجنس، إذ في العالم الحديث تستعبد التقنيات الجديدة المجتمع ككل، وتفرض نماذج استهلاكية أكثر عصرية، من دون أن تترك للإنسان فسحة للتأمل والخيال والحب.

يشير يوسا إلى أن التكنولوجيا الحديثة والشاشات الافتراضية لا تقدم سوى تجربة سطحية وغير مكتملة للفن والثقافة، فالسينما والمتاحف والمكتبات توفر تفاعلاً مباشراً، وتجربة جسدية تتيح للفرد التأمل والانغماس في الفن والتاريخ، إنها تتيح للأفراد تواصلاً حقيقياً ولقاءات اجتماعية مع الآخرين، بينما تقدم اللقاءات الافتراضية تكريساً لعزلة الفرد في قوقعته الذاتية.

ومن خلال حوارات رشيقة بين البطل وصديقه أوساريو، يطرح يوسا تساؤلات عميقة حول العواطف الإنسانية والروحانية والاتصال الحقيقي في هذا العالم التكنولوجي المتقدم. هل يمكن للتكنولوجيا أن تحل محل الاحتكاك البشري والتفاعل الشخصي الذي يحدث في المجتمعات الثقافية التقليدية؟ هل يمكن للشاشات الافتراضية أن تنقل القوة الروحية نفسها والتأثير العميق الذي يتمتع به الفن والثقافة الملموسة؟ كيف نعوض عن الرائحة والملمس والرؤية الواقعية؟

الصديقان العجوزان لهما شخصية متناقضة، الراوي الغاضب في مواجهة أوساريو، صديقه المتفائل، الذي يدافع عن الحضارة قائلاً: “لا تزال هناك متاحف”، يرد عليه الراوي: “لكنها مهجورة كما تمت رقمنة كل الأعمال الفنية، التقدم الذي نعيشه ليس إلا انحطاطاً”.

ذاكرة مثقوبة

اختار يوسا أن يكتب الرواية بضمير المتكلم، مانحاً بطله القدرة على سرد انفعالاته الداخلية بحرية، مع قدرة سلسة على التلاعب بالألفاظ، مثلاً يستخدم كلمة “الريح”، كي يصف البطل حالته الصحية واضطرابات أمعائه وما تصدره من رائحة كريهة.

يدرك الراوي أنه لم يعد يعرف أين يعيش وأنه فقد ذاكرته، ولم يبق لديه سوى صديق واحد، هو “أوسوريو”، رجل عجوز مثله، في كل صباح يبادر أحدهما إلى مهاتفة الآخر للتحقق من أنه على قيد الحياة، لكن الراوي لم يعد يعرف ما إذا كانا قد التقيا في شبابهما أو قبل عشر سنوات. وبينما يبحث البطل من طريقه كي يعود إلى بيته، يصف العالم الذي يعيش فيه، كل شيء مرقمن، تم إغلاق المكتبات، والمتاحف، لم تعد الكتب موجودة، لم يعد للأديان أي دور. أصبح السيرك فناً رئيساً، إن لم يكن الأول، أي شخص يهاجم الحيوانات يوضع في السجن، بعد أن أصبحت غير ضارة، تم تدليل الفئران بعد أن غزت العاصمة الإسبانية، المجتمع أصبح نباتياً تماماً. لم يعد الناس يريدون ممارسة الجنس أو الرذيلة أو الصراع، لأنهم غارقون في متع إلكترونية.

يعود الراوي إلى المنزل، ويدرك أن ليس لديه مفاتيح الباب الخارجي. رجل عجوز آخر يدخل المبنى، يسمح له بالمرور ويشاركه المصعد. يعتقد الراوي أنه يعرفه، وفي هذه اللحظة يبدو وكأنه أحد سكان مدريد ويدعى “ماريو فارغاس يوسا”. لقد جعل الكاتب من شخصيته حاضرة بقوة في النص عبر حيلة سردية، سواء في التناص مع البطل السارد، أو عبر التقاء السارد بيوسا والظهور بهويته الحقيقية.

تحت سقف البيت يقف البطل الراوي بجانب حوض المغسلة كي ينظف سرواله الداخلي. يقول: “قد يكون عمرك 100 عام ولم تعد تحب العالم، ولكن عندما يأتي الموت، مهما كنت مستعداً لاستقباله، ستكون مفاجأة”. هذه الجملة التي يقولها بطل الرواية، لا تبتعد عن قناعات يوسا الذاتية، حين عبر عن نفسه قائلاً بأنه حتى لو وصل لـ100 عام فسوف يحب “العيش حتى النهاية، والتمتع بجمال الفن”.

يمكن القول إن رواية “الرياح” تجسد الاضطرابات المحتملة التي تواجهها الإنسانية في المستقبل، والمخاطر التي قد تنتج من تغييرات تكنولوجية تهدد الواقع الآني. إنها رواية تدعونا إلى التفكير في مكانة الفن والثقافة في عالم يتغير بشكل لاهث، كما تدعونا إلى التساؤل حول مصير الصلات الإنسانية الحقيقية في عصر التقنية الرقمية، فهل يمكن تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي والمحافظة على الروح الإنسانية والتواصل الحقيقي؟

الجدير بالذكر أيضاً أن يوسا حصل على جائزة نوبل في عام 2010، وأصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 2021.

د.لنا عبد الرحمن 

independentarabia

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *