«ما رآه سامي يعقوب» عنوان مخاتل منحه عزت القمحاوي لروايته الأخيرة، موحيا بأن ما رآه بطل روايته يستحق أن يحكيه، ولنلاحظ دلالة اسم الذي رأى، فهو سامي أي النبيل عالي المقام، وجده يعقوب يذكر باسم النبي الذي استعاد بصره بعدما أعماه الحزن الشديد، ثم تأتي لوحة الغلاف لتتضافر معهما (العنوان والاسم) في إثارة شغف القارئ المتطلع لمعرفة تفاصيل الحكاية. فالغلاف يجعل من صورة قط ضخم، إطارا ضاما لصورة أخرى لشخص يسير وحيدا في طريق شبه مظلم، وقد التقطت الصورة بعد مروره بنا، فلا تبين لنا ملامح ذلك الذي مرّ أو الذي رأى وتسامى.
تبدأ الرواية براو عليم، يسير في أثر سامي، ويقرر أنه محض شخص عادي يتجاوزه المارة دون أن ينتبهوا له أو لابتسامته \”التي تتسع بين خطوة وأخرى، فهو في طريقه إلى بيت حبيبته، للاحتفال بعيد ميلاده عندها» و»سيقضي النهار عندها، وحيدين لا ينشغلان بشيء سوى الحب، سيدخل بيت فريدة للمرة الأولى» وأيضا «اليوم سيكون مختلفا، سيرى بيتها\”.
هكذا يبدو الراوي واثقا من علمه، بينما سامي لم يكن يدري أن العصافير لا تغامر بدخول إمبابة، ولم يتوقع أن يكون بالقرب من بيت فريدة، ذلك السور الهائل من الحديد المشغول، فقد اجتذبت عينيه بهجة أشجار البونسيانا ذات الزهور الحمراء، ومن بين تشبيكات الحديد يرى زوجا من القطط في حالة من الحب، فتمتد يده إلى تليفونه ليلتقط صورة (سيغوي بها حبيبته، وستكون لحظة البدء لأجمل أيام حياته على الإطلاق) فقد اندفع سامي بتأثير حالة الحب تلك، ليشارك الراوي ثقته المفطرة، فيقرر أن تلك اللحظة ستمثل حدا فاصلا بين حياته السابقة وأيامه المقبلة. ففي حياته السابقة كانت أعياد ميلاده وميلاد شقيقه تنتهي بشجارات بين الأبوين، هنا يخبرنا الراوي بأن توقع سامي لتلك الشجارات لم يكن قياسا للتالي على السابق، بل كان يرى المشاجرة نفسها قبل أن تقع، «وهذا هو سره الصغير الذى جعله يرى الحياة عرضا قابلا للتكرار؛ فيستقبل الأحداث المبهجة دون لهفة والأحداث الحزينة دون جزع» وهكذا رأى مسبقا موت أبيه وأمه وشقيقه، ولذلك أيضا، «عندما وقعت عيناه على فريدة أول مرة جمَّدته الدهشة «لقد عشت هذا من قبل» وأحس بأن الحياة عادت عرضا لطيفا، وأنه لم يفقد ملَكة رؤية الأشياء قبل وقوعها».
لكن الوحوش خالدة
كانت فريدة ذات فراسة، فنفذت إلى أعماق سامي، واجهته بأنه لم يتخلص من شعوره بالقهر، وبأن حبه للفراشات أنساه أن التماسيح موجودة في النهر ذاته، وقررت أن الوحوش ليست خالدة. بينما سامي الذي افتتن بها منذ رآها وهو يعزيها في وفاة زوجها، ينشغل برصد أوجه الاختلاف بين شخصيهما وبيئتيهما، وكأن القهر المقيم في داخله يستكثر عليه أن يطمئن لحبها. فكلما ذكر ما يعتبره عيبا في شخصيته يردفه بما يخالفه في شخصية فريدة، فمثلا حين يعترف سامي بأن وقع الأقدام الغريبة على السلم يسبب له قلقا مضاعفا، بينما تتصرف فريدة بهدوء وثقة بعيدين عن التوجس. ويقول الراوي: «بيتها في إمبابة يبعد عن النيل بالمسافة نفسها التي تفصل بين النيل وبيته في جاردن سيتي، لكن الفارق بين الحيين شاسع» ويوضح الفارق بين الحيين في الصفحة التالية: «شوارع جاردن سيتي تظللها الأشجار، واسعة وممهدة، بينما تبدو شوارع إمبابة الترابية قاحلة وضيقة».
ذلك قبل أن يلتقي بفريدة، أما بعد أن أحبها فلم تعد ثمة فوارق بينهما، فالفارق الشاسع بين الحيين تقلص، وأصبحت المسافة بينهما «قصيرة إلى الحد الذي تصلح معه لأن تكون نزهة يومية حتى لعصفور كسول» ويفكر سامي: «أصبحت جاردن سيتي تشبه إمبابة مثلما تشبهني فريدة» ولم لا وقد كان قبلها يعيش «حذرا مقيدا مثل طفل يطبق يديه على لونين مختلفين من الخرز. ظهور فريدة منحه راحة التخلي عن الحذر، وبدأ يرى الحياة جميلة كوعد». الحب غيّر من سامي فظن أن العالم من حوله يتغير، كيف لا والناس نزلوا إلى الشوارع يطالبون بالحرية، وصيحات الشرفات تتجاوب مع صيحات الميادين، وترفرف الأعلام، فيراها مثل فراشات الطاووس، فيرتدي ملابسه على عجل ويندفع إلى الميدان، «يتذكر تماما أن ما جذبه لم يكن الصيحات، بل الفراشات». عبر الهاتف يقول لأخيه: «مصر تتغير يا أخي ظل يرددها بإصرار، وأحس أنه بذلك أسقط عن جسمه جلد الشخص الهش الذي يعرفه يوسف. أراد أن يقول إنني أتغير يا أخي». لكن لا مصر تغيرت ولا سامي، فرائحة الأمل التي استنشقها يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011، تمخضت عن رصاصة بين حاجبي شقيقه يوسف فجر الخميس 3 فبراير/شباط 2011، فأخذ الشر يوغل في الخداع، وبقي الخوف شبحا جاثما فوق الصدور.
أحلام وفخاخ
سامي الذي أحب العصافير والفراشات لم يكن يحب القطط، «كان يعتقد أنها كلاب توقف نموها بسبب لؤمها، وعندما كبر لم تتغير رؤيته، بل على العكس تعززت بما عرفه عن الحيوان الذي تأخر في الاستئناس، وحافظ على غروره وغموضه واستعداده الدائم للغدر» فقد تناسى رأيه في القطط، بتأثير مشاهدته للحظة حب بين قطين، فكر في أن يلتقط لهما صورة يغوي بها حبيبته، فأسقطته الغواية ـ دون أن يدري ـ في الفخ، ولنلاحظ أن لفظة «فخ» ترد في الرواية أكثر من مرة، وفي أحداها تكون مقابلا للحياة، أي مرادفا للموت، كما في: «وإذا لم تكن العصافير التي تأملها يوسف قد سقطت في فخ، ستكون حية الآن بلا شك» هكذا يصبح مشهد الحب فخا ينغمس فيه سامي الذي يفيق على التفاتة إلى الأصابع المغروسة في كتفه كمخالب نسر، تأمره بصلافة أن يفتح الموبايل، فيشعر سامي بنفسه كفأر مسلوب الإرادة، وبالتبعية يصبح الرجل الممشوق قطا يتلذذ بذعر الفريسة المربوطة في يده بحبل غير مرئي، ويمر بسامي عبر ممر معتم يؤدي إلى مكتب الرجل النحيل، الذي يتلذذ أيضا برعب الفريسة قبل أن ينطق آمرا: «امسح الصور» لكن تنفيذ الأمر لا ينهي الكابوس العبثي، فالنحيف يستوقفه منبها: «خذ بالك، عليك حكم تبديد في الفيوم يوم 3 فبراير 2011، في أي مناسبة أخرى قد يخرج هذا الحكم.
سامي الذي لم تطأ قدمه أرض الفيوم يعرف أن حياة شقيقه هي ما تبدد في ذلك اليوم، وفي الطريق إلى بيته ينتابه هاجس بأن تليفونه أصبح مربوطا بأجهزتهم، وهم ينتظرون أول مكالمة ستأتيه، يعرف أن فريدة ستتصل، وبالتالي سيرصدون علاقته بها، لذلك لا يرد على اتصالاتها المتتالية مكتفيا بمتابعة وميض التليفون وانتفاضاته بينما تطفو على وجهه ابتسامة تائهة.
هكذا يعود سامي بقسوة إلى الشرنقة، بعد أن أصبح حلمه فخا عقب رحلة خروج قصيرة استغلها الكاتب ببراعة ليحفر من خلالها مسارات سردية استوعبت سبعين عاما من عمر أسرته التي طاردها قدر دموي اقتنص أرواح الجد والأب والشقيق، وأحال حلم التغيير إلى كابوس.
أحمد رجب شلتوت