\”متاهة الإسكندرية\” رحلة علاء خالد في جغرافيا الذاكرة

\"\"

مشهد من الإسكندرية تحت المطر للرسام خالد هنو

هل أراد الروائي المصري علاء خالد في روايته \”متاهة الإسكندرية\”، أن يُنقذ ذاكرته الشخصية أم ذاكرة مدينة الإسكندرية، التي انغمس بها حد التيه؟ تضيع الحدود الفاصلة بين الخاص والعام، وبين الذات والآخر في داخل الرواية، إذ يتآخى النص مع المكان فتبدو بيوت الذكريات مشرعة نوافذها على هواء البحر الذي يغفر كل شيء. وتبدو أبواب الحكايات مفتوحة على الشوارع والأحياء والميادين، ومحطات الترام، والنواصي والمقاهي والمطاعم التي تفوح منها روائح المذاقات الساخنة، والمشروبات المنكهة. إنه نص يضج بالحياة، ويحتفي بفطنة الحواس في سلاسة متناهية، ويعتني بالتفاصيل الصغيرة المخبوءة في الزوايا التي لا ينتبه لها الآخرون، فيمرون بجانبها من دون أن تستوقفهم. يقول: \”أحب دائماً الأماكن الساقطة من خريطة الزمن والمدينة… بسبب هطول الأمطار بغزارة، لم يأت باعة السمك أو الفاكهة، ولكن رائحة الأيام والأعوام السابقة كانت منتشرة في المكان كذكريات متجددة. الروائح تعيش في الذاكرة ونتعلم منها. في تلك الأوقات تتحول ذاكرتنا إلى ذاكرة كفيف، الرائحة هي العصا البيضاء التي تقوده عبر ممرات حياته المتشابكة\”.

إن اختيار الكاتب كلمة \”متاهة\” لتضمينها العنوان، تقترن بفكرتي البحث والسير، فلا توجد متاهة متروكة للمجهول، من دون وجود الراغبين بالبحث في خفاياها أو السير في دهاليزها. لذا شكل فعل \”المشي\” البوصلة الحقيقية في حياة البطل السارد هشام، وهو كاتب وروائي وصحافي ينشر مقالة أسبوعية في إحدى الصحف، وفقد والديه ولم يبق له من أسرته إلا أخته سناء، التي تكبره بخمسة أعوام، ولد في مطلع عام 1960، ويقدم رؤيته للمدينة وتحولاتها منذ عيد ميلاده العشرين وحتى احتفاله بذكرى ميلاده الخمسين في المطعم اليوناني \”إيليت\”.

ينغمس هشام في كشف أسرار مدينة الإسكندرية على مدى ثلاثين عاماً، مراقباً ما تخلل هذه الأعوام الطويلة من تبدلات جذرية، سواء على أرض الواقع، أو على مستوى تحولات حياته الشخصية، وتغيرات الأشخاص الذين عرفهم عن كثب، وتقلبت أحوالهم وتغيرت معتقداتهم. تمضي حياة هشام في علاقة حب مع سميحة وصداقة متشابكة مع \”جماعة الحمير\”، وهم مجموعة من الشبان الثائرين الطامحين إلى تحقيق قدر من المثالية والعدالة الاجتماعية، أما هشام ففي أعماقه طوق لا يخبو إلى النضال والسفر، بل إنه تمنى في أعماقه أن ينضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان، في حين أن سميحة حبيبته ترى أن سلاحها هو الفرشاة لا البندقية والرصاص الموجود في الخيال. داوى هشام رغباته بالسفر بالتجوال في مدينته، والقيام بسفر مواز إلى الداخل لاكتشاف الطبقات التي تتكون منها تربة المكان الذي يسكنه، وتربته النفسية أيضاً، منشداً مع أغنية بوب ديلان: \”كم من الطرق على المرء أن يقطعها، حتى يتسنى له أن يحمل لقب إنسان\”.

ميدالية جلجامش

تحفل الرواية بالكثير من الدلالات الرمزية، الملقاة على مدار النص، وفي معظم الفصول، هذه الدلالات التي تؤرخ للعلاقات الإنسانية وتحولاتها، أو للأماكن وغيابها، أو للألم المتجذر الآتي كنتاج لما سبق. فالميدالية الفضية التي يتلقاها البطل السارد هشام من حبيبته سميحة يُسميها \”ميدالية جلجامش\”، وتصبح رمزاً لحكاية الحب التي لم تكتمل. أسماء الأماكن المنتقاة بدقة تصبح رمزاً لتعددية المدينة، الكرة الحجرية الكبيرة في مقبرة \”كوم الشقافة\”، تدل على البيضة الكونية التي ترقد فوق الماء والتي خرج منها الكون في أساطير الخلق القديمة. بالتوازي مع هذه الدلالات تنشغل الرواية بحضور هائل للفن بكل تجلياته؛ عبر الموسيقى والسينما والأغنيات والتصوير والعمارة، وهذا الانشغال بالفنون يشكل أحد المسارات المحورية في \”متاهة الإسكندرية\”؛ إذ يعكس علاقة المدينة بالفن، وانشغال أبطال الرواية في تعقب العلاقة الجوهرية بين الفن والحياة، بحيث يمكن رؤية مدى حضور ضرورة الفن بالنسبة لهم، واشتباكه في حياة هشام ومعظم من في دائرة حياته. يقول: \”كل هذه الصور كانت تطاردنا عندما تضعف مقاومتنا، ونرى الآخرين أفضل منا لأنهم اختاروا طريق الحياة ووضعوها قبل الفن، وليس العكس كما حدث معنا. كان سامي يسأل دائماً، أليس الفن حياة لكن بشكل آخر؟\”.

\"\"

من المعروف عن علاء خالد احتفاؤه بالعلاقة والكتابة عن الأماكن، صدر له كتاب في أدب الرحلات بعنوان \”أكتب إليك من بلد بعيد\”؛ كما أسس مجلة رائدة في ثقافة المكان هي \”أمكنة\” التي عنت لسنوات بتقديم نصوص تُعنى بإبراز أثر الأماكن علينا، وما يتركه المكان من بصمة ودلالات في جوهر الحياة ككل. إذ في الحقيقة إن الحياة هي مجموعة من الأماكن، لا يوجد حياة من دون مكان، وإلا ستكون حياة أثيرية مجردة.

في \”متاهة الإسكندرية\” ثمة تتبع دقيق لارتباط المكان بأصحابه، حيث التوقف أمام المصائر المدموغة بأحداث سياسية كبرى أدت إلى تحولات في حياة البشر، والأماكن. فالإسكندرية مدينة مُطلة على البحر، عاشت فيها عدة جاليات ونقلت إليها ثقافتها، لذا يبدو ماضي المدينة مرتبطاً في الغالب بحكايات كفاح لعائلات مهاجرة، سواء من الشام أو أوروبا، مثلاً ابن الرعية اليوناني ديمتري كالوجلوبولو أسس محل \”مخازن البن البرازيلي\” عام 1929، ثم اشتراه منه مصطفى غالب، شاب من أصل سوري كان يعمل في استيراد البن والكاكاو، لكن تم تأميم تجارة البن في الستينيات، وأصبحت الدولة هي الوحيدة التي لها الحق في استيراده. وهكذا ثمة أسماء وأمثلة متعددة لدور الجاليات المهاجرة وأثرها في تطور الإسكندرية.

وجوه أمكنة وأزمنة

تتكون الرواية من اثنين وخمسين فصلاً، يحمل بعضها إشارات للأزمنة وتحولاتها مثل \”تيار الزمن الهارب\”، \”عام 77 الحزين\”، \”اندلعت تظاهرات الخبز قبل وفاة أمي بأربعة أشهر\”، \”صباح الجمعة مع سناء\”. أو عناوين أماكن بعينها في مدينة إسكندرية مثل: \”العبور صدفة على استديو بيومي للتصوير\”، \”سرداب الموتى\”، \”بوفيه فيليب\”، \”البار مكان زائف يتضخم فيه الإحساس بالذات\”، \”غرفة سامي الكونية\”، كما تكثر الفصول التي تحمل أسماء لشخصيات، مثل: \”حكاية سناء\”، \”عطية يكتب الروايات\”، \”رحلة عائلة يوسف وماريان\”، \”سلامة والي الساخر الكبير\”، \”الأستاذ مشير\”، \”عصمت صبري الفنان الغائب\”، وغيرها من العناوين؛ وقد ساعد هذا التقسيم على تنبيه القارئ ضمن إطار الانتقال السلس في السرد بين الأمكنة والأزمنة والشخصيات.

\"\"

استند خالد إلى استخدام تقنية تيار الوعي في معظم فصول الرواية وهذا يبدو ضرورياً في نص يقوم معماره السردي على المراوحة بين أكثر من زمن؛ كما طغى ضمير المتكلم على أسلوب السرد، فيما عدا الصفحة الأولى التي أولى الكاتب فيها أهمية لضمير المخاطب الذاتي، متحدثاً عن نفسه بصيغة الغائب، بحيث يمكن اعتبار هذه الصفحة بمثابة عتبة النص للدخول لمتاهة السرد، الكاشفة منذ البداية عن تقاطع الذاتي والموضوعي، التاريخ الشخصي للراوي، مع تاريخ مدينة الإسكندرية الموغل والمتشعب في القدم، والمتغير أيضاً مع تغيرات الزمان. لنقرأ هذه الجملة المعبرة والتي توجز منذ البدء عالم الرواية، يقول: \”لم تجد ما يوحد بين أبطال حكايتك الشخصية، وحكاية المدينة سوى التيه، لتنفذ منه إلى قلب الماضي الحي\”. يحاول صاحب \”أشباح بيت هاينرش بل\”، \”إنقاذ الذاكرة من الاختفاء، من التبعثر في رياح التغيرات الكبرى، يجمع جُزيئات مدينته التي لا يمكن أن يعرفها أحد كما عرفها، يركبها حجراً على حجر في لوحة موزاييك كبرى، تدمج بين التاريخ والجغرافيا والأنثروبولوجيا والسياسة ضمن إطار سرد أدبي لا يحيد عنه بل إنه الخيط المتين الذي يؤلف وحدة القص من البداية وحتى النهاية التي اختار أن تظل مفتوحة على لقاء حميم مع الأصدقاء في ليلة ميلاده الخمسين.

لنا عبد الرحمن

independentarabia