“موت منظم” رواية تنبش جذور أرمن مصر ومأساتهم

\"\"

 من أجواء الهجرة الأرمنية في بداياتها

يحفل التاريخ بأحداث ومواقف تثير مخيلة الروائي وتحفزه لتناولها، وتعليل أحداثها من وجهة نظر إبداعية تحدد نقطة البدء والانتهاء. تنضم رواية \”موت منظم\” (دار نوفل – بيروت) للكاتب المصري أحمد مجدي همام، إلى قائمة الروايات المشغولة بالتاريخ والكشف عن خباياه وتفاصيله من خلال اختيار حدث معين، وشخوص تقاطعت مصائرهم مع هذا الحدث وسبب لهم تحولات كبرى وارتحالات في بقاع جغرافية بعيدة.

يتخذ الكاتب من موقف طريف ومشوق ذريعة للدخول إلى عالم الحكاية الأصلية التي ينوي الكشف عنها، حين يفقد بطله، الصحافي \”عبد الرحمن\”، هاتفه، ويذهب إلى الشرطة ليقدم بلاغاً، فيلتقي هناك \”ماجدة\”، امرأة خمسينية جاءت أيضاً لتقدم شكوى ضد جارتها \”أم سيد\” التي تسبب لها \”طاقة سلبية\”. هذه الجملة الغريبة تثير مخيلة الصحافي الشاب وتدفعه لتتبع ماجدة والتسلل إلى عالمها.

لكن الرواية تنعطف لتروي مأساة شتات الأرمن، ومذبحة عام 1915 عبر بوابة الهوية، ثم الذاكرة . يعثر عبد الرحمن على حكاية حقيقية يود الكشف عنها بشكل فردي أولاً، ثم لمصلحة الصحيفة التي يعمل فيها. تنتمي ماجدة إلى الجالية الأرمنية التي ارتحلت إلى مصر بعد المذابح التي ارتكبها الأتراك في حق الأرمن. رويداً رويداً، تبدأ ماجدة في الكشف عما حدث لأسلافها أمام عبد الرحمن الذي لم يكن يعرف كثيراً عن تاريخ الأرمن المصريين، لكنه يقع في غواية معرفة الفاجعة المريرة، وإماطة اللثام عن الماضي في سرد مشوق يدمج بين الماضي والحاضر، بين واقع ماجدة المعيش وماضيها، وبين حياة عبد الرحمن وواقعه كصحافي يعاني من صعوبات المهنة وتحولاتها.

اختار همام لروايته أن يبدأ زمن أحداثها في ديسمبر (كانون الأول) عام 2015، وأن ينتهي بعد عام كامل أي ديسمبر 2016، فتمتد تفاصيل وأحداث كثيرة خلال هذا العام، يتقاطع فيها واقع قاس لسيدة أرمينية وحيدة تعيش في منطقة \”الرماية\”، وتتجاور مع عائلة مشبوهة أقرب إلى أن تكون عصابة، تسبب لها الخوف والهلع. في مقابل ماض حافل بالآلام أيضاً مع حكاية جدها آرام سيمونيان الذي عايش المجزرة. وبدا سرده هنا من أكثر فصول الرواية رهافة وعمقاً. لنقرأ ، \” تخيل أنك مدين بحياتك لحلم، مجرد حلم، في ليلة صيف…السجلات تقول إني من مواليد 1906، أنا أشعر بأن عمري الحقيقي ستمئة عام، التركي فعل بي هذا. كنت ابن تسع سنوات عندما أصدر الباشاوات الثلاثة مرسومهم بترحيل الأرمن من سيس 1915…كنا نعرف ممن سبقونا ومن أقاربنا في بقية الأراضي الأرمينية في الأناضول، أن من يمضي في مسيرة لا يظهر ثانيةً، لم تكن هناك أي ضمانات من الأتراك\”.

الفصول الأربعة

قسم الكاتب روايته إلى أربعة فصول هي، \”شتاء طويل\”، و\”ربيع القوقاز\”، و\”مواعيد صيفية\”، و\”خريف أسود\”، وضمن كل فصل ثمة فصول صغيرة معنونة باسم السارد، مع اختيار ضمير المتكلم مع الأبطال جميعاً، \”ماجدة، عبد الرحمن، وأرمن زوج ماجدة الذي شغل جزءاً واحداً ضمن فصل \”مواعيد صيفية\”، أيضاً الجد \”آرام سيمونيان\” ضمن فصل \”شتاء طويل\”. بينما توزع جزء كبير من السرد على لسان ماجدة وحياتها المقسمة بين مصر وأرمينيا، وعبد الرحمن في تقاطعات عمله في الصحافة ولقائه مع ماجدة وانشغاله بملف الأرمن.

\"\"

تحفل الرواية بتفاصيل كثيرة ترتبط بأرمينيا ومصر، وبعلاقة الصداقة الشفيفة التي سرعان ما تتصاعد بين عبد الرحمن وماجدة، وما فيها من تواصل إنساني نبيل، لعل أبدع ما فيها هو عدم انزلاق الكاتب لتقديم نموذج تقليدي للعلاقة بين رجل وامرأة. بل علاقة إنسانية تتراكم تفاصيلها الصغيرة بشكل طبيعي يخلو من تعقيد الانشغالات العاطفية والجسدية، ليس فقط بسبب فارق السن بين امرأة خمسينية وشاب ثلاثيني، بل لأن التركيب النفسي الذي اختاره لكليهما، وضع حدوداً فاصلة منذ البداية، يصف عبد الرحمن ماجدة قائلاً، \”بدأت أحب آرارات مصر الجديدة، أستمتع هناك بنسمة هواء ناعمة ومباريات محتدمة في كرة السلة، هذا بخلاف أني أحب مجالسة ماجدة، فهي تحيلني بأناقة إلى منتصف القرن الماضي، العصر الذي تمنيت لو أنني ولدت فيه. أشعر أنني جالس في حضرة مريم فخر الدين أو شويكار، أسلوبها الراقي وحكاياتها الغريبة تنتشلني من الزحام والتلوث وضوضاء أبواق السيارات التي تصدع الرأس في القاهرة، لتضعني في زمن مضى وجغرافيا أخرى\”.

يتضمن الفصل الذي يحمل عنوان \”ربيع القوقاز\” انتقالاً مكانياً في السرد، إلى أرمينيا، مع سفر وفد من الصحافيين والفنانين والتشكيليين المصريين للمشاركة في الاحتفالية التي تنظمها جمهورية أرمينيا في الذكرى الأولى بعد المئة للإبادة العثمانية للأرمن. الأجزاء المرتبطة برحلة أرمينيا يتم سردها عبر \”عبد الرحمن\”، و\”ماجدة\”، عبد الرحمن من خلال تسجيل تفاصيل يومياته كصحافي يكتب انطباعه عن العاصمة \”يريفان\” وعن العادات والطقوس الأرمينية، والطعام والوجبات الفريدة، وعن الأماكن التي جابوها، بحيث تبدو معظم التفاصيل الحياتية في أرمينيا مرتبطة بالتاريخ الشائك العالق نصفه بين ماض شريد وحاضر لايزال يجمع شتاته، يقول،  \”يطلق الأرمن على القهوة كما يحبها المصريون اسم قهوة يونانية، يرفضون تماماً تسمية قهوتهم بالتركية… لم نكن في سويسرا يا رجل بل في أرمينيا، دولة اشتراكية فقيرة ومواردها السياحة فقط\”.

مصر وأرمينيا

تنشغل الرواية بسؤال الزمن الحاضر عن أرمينيا والصلة مع الماضي، والسؤال أيضاً عن الأرمن ووجودهم في مصر، وإحساسهم بالانتماء إلى البلد الذي احتضن أجدادهم، وبشتاتهم في أرجاء الأرض بعد تلك المذبحة المريعة. يطرح الكاتب أيضاً تصوراته على لسان أبطاله عن التحولات التي طرأت على مصر، ويعتمد على جانب التوثيق في طرح جانب كبير من وجهة نظره بخاصة في الفصل الأخير \”خريف أسود\”، فيقدم في الصفحات الأخيرة جزءاً تحت عنوان \”توثيق ب\” تضمن بعض الوقائع والأحداث الحقيقية التي ترتبط بالنهاية التي اختارها للرواية، وكان من الممكن الاستغناء عن هذا الفصل لمصلحة تخييل سردي بدلاً من التوثيق.

تقدم الرواية للقارئ وجوه أرمينيا المتعددة،إنها أول دولة مسيحية في العالم، ذاك البلد المظلوم بجغرافيته الواقعة بين تركيا وإيران، تشرد أبناؤه في أصقاع الأرض، لكنهم ظلوا مترابطين بشكل أو بآخر، عبر المحافظة على اللغة والعادات والتقاليد، والتمسك بفكرة الوطن. وهذا ما قدمته شخصية البطلة \” ماجدة\” حين تقول، \”أرمينيا أفضل ما ورثته من أهلي. ممر خلفي آمن أستطيع التسلل من خلاله كلما ضاقت الدنيا… إنها الرحم الكبير الذي أستطيع أن أغفو فيه دون خوف\”.

يؤكد أحمد مجدي همام في \”موت منظم\”، أهمية الجانب البحثي بالنسبة إلى الروائي، وعلى قدرة ذكية على التحرك ضمن الواقعي الآني والمتخيل والتاريخي في دمج رشيق وغير مفتعل، مع ملاحظة أن الفصول التي جاءت على لسان \”ماجدة\”، بدت أكثر حيوية وعمقاً في السرد.

لنا عبد الرحمن 

independentarabia