هدية حسين أدركها الصباح

\"\"

تستدعي الذاكرة عبارة أبولينير: \”لا الماضي يعود ولا الأحبة يرجعون\”؛ عند قراءة رواية \”أدركها الصباح\” للكاتبة العراقية هدية حسين ( المؤسسة العربية للدراسات – عمان) التي تطرح سؤالها عن ثنائية الحب والزمن من خلال قصة حب عراقية، في زمن يمتد لأكثر من أربعين عاما يتخلله فراق وحياة كاملة مع أشخاص آخرين، وركود غريب للقلب الذي يظل أسيرا للأمس.

تبتعد الكاتبة في عملها الروائي هذا عن ذكريات الحرب والتحولات السياسية في العراق التي تناولتها في معظم أعمالها الروائية؛ حيث تكتفي صاحبة \”ريام وكفى\” بالاقتراب من السؤال الأبدي عن الحب الحقيقي، أو بعبارة أدق الحب الأول. هذا السؤال الذي شكل جوهر الرواية يبدو مضمونه معارضا لرواية ماركيز \”الحب في زمن الكوليرا\”، ومعارضا أيضا لرواية ايزابيل اللندي\”العاشق الياباني\”، ففي كلا العملين ينحاز ماركيز واللندي لانتصار الحب الأول على شيخوخة الجسد والتقدم في العمر. هنا لا تنتصر هدية حسين لديمومة الحب الذي يُسجن المرء في قضبان أوهامه، بل تعتبره مجرد وهم يعيق عن ادراك الواقع وسبل التفاعل معه، أو كما تقول سلمى احدى بطلات الرواية :\”الحياة الحقيقية لا تستقيم مع الأحلام\”.

الزمن وخيانة الجسد

تبدأ قصة الحب بين مرام وضياء منذ سنوات الطفولة، من خلال تبادل النظرات عن بعد، حيث تحول الخلافات العشائرية بين ذويهم دون وجود سهولة في تواصلهما؛ ولما يتمكنا سرا من التواصل واللقاءات بعيدا عن أعين الرقباء، تشيع قصة حبهما بين الأقارب، ويُحتم عليها الفراق.يسود منطق القبيلة حياة الأفراد ويتحكم بها، فلا يمكن للفرد أن يعصي أو يخالف الوصايا التي يريدها الأكبر منه، وإلا سيكون مصيره النفي والغضب الأبوي..تقول البطلة في توصيفها لما بعد النهاية بسنوات كثيرة: \” مات العديد من الأقرباء بفعل الشيخوخة والأمراض، لقد غادر الكثير ممن كانوا سببا في التفريق بيني وبين ضياء أو كانوا شهودا على قصة حب لم تكتمل،ماتوا بعد أن انتهت معاركهم\”.

تبتعد مرام عن ديار القبيلة بعد موت الأب، واختيار أمها الغريبة أن تعود إلى أهلها في البصرة، هكذا ترتحل مرام إلى الجنوب، لتتزوج وتنجب طفلة مشوهة. أما ضياء فيبتعد  نحو الشمال في السليمانية حيث يتم نفيه إلى هناك بعد أسابيع من الاعتقال بسبب علاقته مع صديقه الشيوعي توفيق، يواصل حياته في التدريس ويتزوج ثم يكتشف أنه عقيم وينفصل عن زوجته، ليعيش وحيدا. اختارت الكاتبة لكلا البطلين حياة مأساوية في وجود \” العقم والتشوه\”، وكأن هذا النقص المضني بسبب غياب الحب، أو بسبب بتر جزء منهما مع الماضي.

امتازت الرواية بتماسك البناء السردي، وسلاسة اللغة واعتمادها على التصاعد الحدثي وعنصر التشويق، حيث تتعدد الأصوات داخل النص،هناك راو عليم، وصوت مرام، وصوت ضياء، حيث يسرد كل منهما حكايته بنفسه.تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول، مهدت الكاتبة في الفصل الأول للواقع الذي يعيشه ضياء ومرام في حمى العشيرة، مع تقديم صورة دقيقة ومفصلة للعلاقات الإجتماعية السائدة في العراق في سنوات الستينيات من القرن الماضي، إلى جانب تصاعد قصة الحب ثم دفعها دفعا نحو التشظي والفراق. وتضمن الفصل الثاني واقع البطلين بعد الاغتراب المكاني والاجتماعي، وكيف مضت حياة كل منهما مع احساس مرير بالخذلان ، ثم تصل الأحداث إلى ذروتها مع الفصل الثالث وعودة التواصل بين الحبيبين، هذا التواصل المرفوض أيضا هذه المرة بفعل مرور الزمن وخيانة الجسد، التي تواجهها مرام وحيدة وهي تحدق في مرآتها، تتأمل الشعر الأبيض والتجاعيد العميقة وتعجز عن مداراتها، ثم تختار أن تبوح لصديقتها سلمى عن استعدادها للقاء ضياء.

تمثل سلمى دور العقل في الرواية، حين تقول لمرام : \”هل سيعيد عمرك الذي ضاع ؟ عن أية عودة تتكلمين؟ وأية نهاية لقصتكما؟ النهاية انتهت منذ زمن بعيد، وما يجري معكما الآن هو مراهقة شائخة. الحب بعد الخمسين وما فوق نابع من أن المرء يبحث عن قشة تجعله يشعر بأنه مايزال محبوبا ، إنها الرغبة في حب الحياة وليس الحب نفسه، أنت تحرثين في الوقت الضائع\” .

في الفصل الثالث وتحت عنوان \”على قدر المشقة\”، تضع الكاتبة نهاية قاسية للحبيبين، بعد مرور أربعين عاما على فراقهما، وبعد أن تتقاطع سبلهما ويبدأا بتبادل حوارات هاتفية، يتفقان على اللقاء على قمة الجبل الملون ليلة الاحتفال وفي مشهد كرنفالي يجتمع فيه البشر والشجر والزهر والكواكب لتكون شاهدا على عودة العاشقين، يذهب ضياء برفقة صديق له وتذهب مرام متنكرة بزي كردي، تقف إلى جانبه وتسأله عن سبب اجتماع الناس في هذا المكان، يتبادل معها حوارا طويلا ولا يتمكن من معرفة حبيبته الأولى، بل يقول لها : \” لا تعولي كثيرا على الحب أيتها السيدة، فالحب مزاح مع الحياة، فلكي نحتملها نمزح معها بلعبة الحب\”. يمكن اعتبار هذه الجملة هي الموقف الوجودي الحقيقي للبطل من فكرة الحب، في المقابل تبدو مرام أكثر صدقا في مشاعرها حين تتمكن من معرفة حبيبها  من أول لحظة رغم الفراق الطويل، لكن ينقشع الضباب من أمام عينيها في لحظة دراماتيكية حاسمة، تزول أوهام الحب، لنقرأ:  \”من بعيد قبل أن تمحي الألوان بفعل هبوط الليل، نظرت إلى الجبل الذي لم تعد ألوانه تسحرها، إذ لم يعد الضياء ضياءاً ولا المرام مراماَ. تركت الوراء وراءها وقفلت راجعة، بشعور من خرج إلى الحياة توا بعد أن عاش أكثر من أربعين عاما في زنزانة ما يسمونه الحب\”

تقدم الرواية عدة نماذج لشخصيات واقعية، يمكن الإشارة إليها بسهولة، مثل توفيق الشيوعي الذي تنتهي أحلامه مع جملة \”كل ما ناضلنا من أجله طلع فاشوش\”، أما سلمى صديقة البطلة فتبدو من أكثر النماذج ايجابية رغم تعرضها للإعاقة، حيث تخوض غمار الحياة لتكمل دراستها، وتعمل وتتزوج وتنجب الأبناء.. أما شخصية أحلام فهي من  النماذج التي جسدت التحولات الإجتماعية، الفتاة الجريئة المتمردة تختار في النتيجة بعد تجربة السفر والغربة، العودة إلى الوطن ووضع غطاء الرأس ارضاء للمجتمع.

على الرغم من تمحور الرواية حول قصة الحب ،إلا أنها تتوقف أيضا عند أحداث مفصلية في تاريخ العراق تؤدي لتحولات اجتماعية في حياة الأفراد مثل قانون الإصلاح الزراعي عام 1958، حيث لم تنفع احتجاجات الشيوخ من ذوي الاقطاعيات الضخمة على إلغاء القانون، وأدى الأمر إلى هجرتهم من أراضيهم ليعيشوا في محافظات أخرى بعيدا عن شماتة  من كانوا في خدمتهم .. أما الفلاحون الذين فروا سابقا إلى بغداد وضواحيها بسبب جور ملاك الأراضي فقد عادوا إلى قراهم ليتملكوا أرضا بدل شتاتهم وعيشتهم المريرة ، قدمت الكاتبة أيضا توصيفا دقيقا للعلاقات العشائرية، ولطبيعة شيوخ العشائر في تواصلهم سواء مع بعضهم أو مع الأقل منهم، وحصولهم على مساحات الأراضي الشاسعة عن طريق الاحتلال البريطاني الذي وزع الأراضي على الشيوخ ليضمن ولاءهم.

د. لنا عبد الرحمن

جريدة ( صوت البلد )