هل يرسخ الأدب هوية البدون ويحفظها من الضياع؟

\"\"

الهوية، الوجود، الانتماء، والأدب، تشكل هذه القضايا جوهر كتاب \”أدب عديمي الجنسية في الخليج – الثقافة، السياسة، والبدون في الكويت\” (منشورات تكوين – ترجمة أسرار الهزاع عن الإنجليزية)، وفيه يضع الباحث الكويتي طارق الربعي كل هذه المحاور على المحك، من خلال بحث متشعب بين التاريخ والجغرافيا والإبداع، ويكشف عن الدلالات الجمالية والأدبية في إبداعات الكتاب البدون، يدفعه طموح قوي إلى توسيع آفاق القراءة لهذه الكتابات وإلى \”تجنب قراءة أدب البدون، على أنه أدب عن البدون\”. فالتجريد من الهوية بلا نفي، مع الحرمان من رقم ثبوتي، يظل يؤكد المواطنة، والحق بحياة كريمة بلا شقاء. وهذا ما يشكل معاناة \”البدون\” من جيل إلى جيل، وقد أصبحت هذه القضية معروفة اجتماعياً في السنوات الأخيرة، وقد أولتها الدولة اهتماماً وما برحت، من أجل إيجاد حل جذري لها. وقد سمحت للبدون بحق التظاهر السلمي والتذكير بحقوقهم. ولم تعمد بتاتاً إلى منع الكتب التي تصدر عنهم ولا الأعمال الإبداعية التي تتناول قضينتهم. أما المؤلف أراد من كتابه هذا تقديم ظاهرة أدبية معاصرة، وهي أدب \”البدون\” في الكويت وفي الشتات، إذ \”تشكل أعمال الكتاب البدون ظاهرة أدبية فريدة في قدرتها على التعبير عن مفاهيم: الانتماء والوجود والهوية\”.

معاناة الانتماء

لكن ّأشخاص البدون هنا ليسوا أشخاصاً عاديين، بل هم ممن احترفوا الكتابة، وانتموا إليها، فنشأت داخلهم هوية أعمق، ترسخت جذورها في قلوبهم، فانتموا إلى الكلمة من أجل إيجاد فضاءات أوسع يحلقون فيها، لكن كيف من الممكن أن يراهم الآخرون، وكيف سيتلقون كلماتهم؟ وما أثر فقدان الهوية على تداول نتاجهم المعرفي؟ حاول المؤلف تقديم أجوبة عن هذه الأسئلة عبر سرد مواقف وأحداث واقعية في حياة الكتاب البدون، وما تعرضوا له.

يتوقف الربعي عند المنعطفات التاريخية التي أظهرت للوجود قضية البدون، لكنه لا ينشغل بها بقدر انشغاله بتقديم هذه القضية إبداعياً، وكيف تجلت في القصة والقصيدة والرواية، ثم يحسم المسألة التاريخية، معتبراً أن فعل التسمية في حالة البدون ينطوي على عنف تاريخي، وتسهم مثل هذه التسميات في نزع الطابع التاريخي من القضية وتحويلها إلى مسألة بيروقراطية إجرائية، كما أنها لا تكترث البتة بمفاهيم الصحراء السابقة لنشوء الدولة الحديثة، وتنفي أي مفهوم للانتماء غير ما هو معتمد رسمياً.

\"\"الكتاب المترجم عن الإنجليزية (دار تكوين)

وإذ تتفرع صيغة المعاناة إلى جزأين، لتكون في جزء منها معاناة \”البدون\” اليومية، كبشر عاديين لا يحملون أوراقاً ثبوتية تمكنهم من العيش كالمواطنين الآخرين، تظهر معاناة أخرى تخص الأدباء البدون، هؤلاء الذين امتلكوا إدراكاً ومخزوناً ثقافياً ومعرفياً، لا يسمح لهم بالارتكان والنكوص أو الاستسلام لما يتعرضون له من ظلم، فكتبوا معبرين عن حالهم وعن أحوال غيرهم من الأسر التي حرمت من هويتها وتعرضت للإقصاء القانوني، وأجبرت على العيش في الهامش. بدأت أعمال الكتاب البدون مع الشاعر سليمان الفليح عام 1979، ثم ظهرت إبداعات أخرى في القصة والرواية لعديد من الأسماء الأدبية منهم: ناصر الظفيري وسعدية مفرح وعلي المسعودي ومنى كريم ومحمد النبهان وكريم الهزاع ودخيل الخليفة، وآخرون.

البدون في ظل العولمة

يتوقف المؤلف أمام إبداعات روائية وقصصية ساندت قضية البدون، كما في رواية \”الغول والعنقاء والخل الوفي\”، للكاتب إسماعيل فهد إسماعيل الذي يتناول شخصية راوٍ من البدون يدعى \”المنسي بن أبيه\”، وتتضح الرمزية في اختيار الاسم. يكتب المنسي رسالة طويلة لابنته زينب يتحدث فيها عن حياته ومسكنه ووضعه القانوني، ومن خلال هذا السرد تتكشف للقارئ قضية البدون التي هي محور الرواية وجوهرها.

رواية أخرى بعنوان \”الصهد\” للكاتب ناصر الظفيري الذي عاش في الكويت حتى منتصف التسعينيات كبدون، ثم هاجر إلى أوتاوا في كندا، حيث حصل على الجنسية الكندية، إلا أنه دائماً ما يؤكد انتماءه للكويت.

يقدم المؤلف التجربة الروائية للظفيري، ويكشف عن انشغاله الدائم بتقديم قضية البدون إبداعياً، فالظفيري نشر \”ثلاثية الجهراء\” التي تعتبر روايته الرابعة. الجزء الأول هو \”الصهد\”، ثم \”كاليسكا\”، و\”المسطر\”. يقول، \”تعتبر الرواية صريحة جداً في تعاملها مع الأصول التاريخية للأب البدوي شومان وهجرة ابنه علي إلى كندا. أما الروايتان الثانية والثالثة فترويان أيضاً عديد من القصص المسكوت عنها في الكويت والمنفى\”.

أسهم العالم الذي أصبح قرية صغيرة، في وصول أصوات الأدباء البدون إلى أبعد من الحدود الجغرافية لمنطقة الخليج. مع ظهور الإنترنت في العالم العربي عام 1999، بدأ التفكير في الخروج من القوقعة إلى أفق أوسع، وصار من الممكن للكتاب أن تصل كلماتهم إلى مدى أبعد من صفحات الجرائد المحلية. لاقى الترحيب بالنشر الإلكتروني إقبالاً كبيراً من الكتاب العرب عموماً، مع تأسيس مواقع نشر قامت بدور فعال مثل \”كيكا\” الذي أسسه الشاعر العراقي صموئيل شمعون، وموقع \”جهة الشعر\” الذي أسسه الشاعر البحريني قاسم حداد. أسس محمد النبهان مجلة \”أفق\” الإلكترونية، مع أخيه صالح النبهان والكاتب كريم الهزاع. وفي مجلة \”أفق\” كان المساهمون من العالم العربي في البداية يعرفون بانتماءاتهم الوطنية، وفيما بعد تغيرت سياسة التحرير، ولم يعد يذكر الانتماء الوطني، لكن مجلة \”أفق\” توقفت عام 2005، مع تخلي النبهان عن النشر الرقمي، جراء الإحساس بالخيبة من التحديات الكثيرة التي تواجه النشر الرقمي، لكن هذه المواقع الرائدة الثلاثة، أسهمت على رغم تعثرها وتوقفها عن النشر، في تنشيط حركة النشر والكتابة في العالم العربي ككل، وهذا بدوره انعكس أيضاً على أدب البدون.

عابرو الحدود

تعتبر الشاعرة سعدية مفرح نفسها كويتية، وقد حرصت على عدم ربط الانتماء بتوفر الأوراق الثبوتية التي تثبته، تقول، \”أنا كويتية الروح والوجود والهوى والانتماء، شاء من شاء، وأبى من أبى، وهذه حقيقة ليس لها علاقة بتلك الورقة التي تسمى الجنسية، سواء حصلت على الجنسية الكويتية، أم حصلت على جنسية دولة غيرها، أم لم أحصل أبداً، ستبقى الكويت هي وطني الأول، ووطني الأخير ووطني الأبدي\”.

يتحدث الباحث عما يتعرض له الكتاب البدون من إقصاء، مقترباً من تجربة الشاعر محمد النبهان ومشاركته في مهرجانات شعرية دولية، واعتباره من ضمن أهم الشعراء المعاصريين. يقول، \”ومع ذلك فإن أنباء منح النبهان جائزة دولية، بالكاد حظيت باهتمام في وسائل الإعلام الكويتية\”، ويتوقف موضحاً ما حصل مع الشاعرة سعدية مفرح التي لم تتمكن من السفر عندما دعيت إلى الحضور بصفتها ممثلة للكويت في أحد المهرجانات الشعرية في فرنسا عام 2012، وفي العام نفسه تم اختيارها كممثل للشعر الكويتي في مشروع \”بي بي سي\”. ويقول، \”يتم الاحتفال بهذين الشاعرين العالميين، النبهان ومفرح، كممثلين لدولة لا تعترف بهما رسمياً، في بيئة أدبية عالمية، غالباً ما تتخذ من الانتماء الوطني الرسمي شرطاً مسبقاً للاعتراف الثقافي\”.

ينقسم الكتاب إلى مقدمة وستة فصول، مع خاتمة والمراجع التي استعان بها المؤلف، وهذه المنهجية لم تحجب حالة التعاطف والدعم الإبداعي، سواء في اختيار النصوص الأدبية الواردة، أو في عناوين الروايات التي أيدت الفكرة الرئيسة، أو في القصائد. ويظهر تقسيم الفصول حرص الكاتب على تناول الظاهرة وتتبعها وتحليلها نقدياً ومعرفياً، وفي تفنيد بدايات أدب البدون، وتتبع الشخوص والأسماء الذين برزت تجاربهم الإبداعية، وأسست أصواتا جماعية للحديث، ليس عن معاناة البدون وحسب، بل عن معاناة كل الغرباء والمنفيين والمجردين من هوياتهم في هذا العالم. ويستعين المؤلف في الفصل الأخير بقصيدة للشاعر محمد النبهان يقول فيها:  \” لم أذكرني/ كنت دخلت بلادي باسمي الآخر/ ورقي الآخر/ غربتي الأخرى/ تأشيرة بؤس/ شخص آخر يحملني الآن على كتفيه/ ويمشي في أي طريق/ إلا الموت\”.

يواصل كتاب البدون تعبيرهم عن أنفسهم وعن مجتمعهم ومعاناتهم الخاصة، ويوضح الباحث أن البدون حتى الآن يواجهون نوعاً فريداً ومنهجياً من التهميش والإقصاء، بسبب افتقارهم إلى الأوراق الثبوتية الرسمية، مع عدم وجود شهادات ميلاد وشهادات وفاة وجوازات سفر، ويستمرون في العيش ببطاقات موقته تصفهم كمقيمين بصورة غير قانونية في ما يعتبرونه وطناً. ويختم كتابه بعبارة تقولها الكاتبة هنادي الشمري تعليقاً على رواية ناصر الظفيري قائلة، \”لو حدث في يوم ما وتم محو جميع الدلائل على تاريخ وجود البدون في الكويت، ونقض المسؤولون صحة الأوراق والإحصاءات التي يمتلكها كثير من العائلات المسلوب حقها، فإن روايات ناصر الظفيري ستنقذنا\”.

لقد طرح المؤلف رؤيته بأسلوب مباشر ونقاش مفتوح لا يوارب أو يختبئ وراء تسميات أخرى. إنه كتاب جريء يتساءل فيه عن معنى الانتماء، وجدواه، وعن إمكان رفض الوطن لأبنائه. الكتاب الصادر عن دار تكوين، وضعه المؤلف باللغة الإنجليزية، ونقلته إلى العربية بسلاسة واضحة المترجمة أسرار الهزاع، مع كلمة إهداء تقول، \”إلى كل من دون لا يسمع صوته\”.

لنا عبد الرحمن

independentarabia