ربما الحرية بمفهومها الشاسع، هي الغواية المطلقة القادرة على إغراء الكاتب بالانتقال في الكتابة من لغة إلى أخرى، ثم اكتشاف جماليات ما منحته كل لغة. الكاتبة السورية الكردية مها حسن، وقعت بعد أعوام من إقامتها الباريسية في غواية اللغة الفرنسية، فهي أصدرت أخيراً روايتها \”نساء حلب\”، بعد قيامها بتجربة الكتابة المشتركة مع الكاتب الفرنسي إسماعيل دوبون، لتصدر عن دار سكول فريز (SKOL VREIZH)، مع لوحة الغلاف البديعة للرسام الكردي لقمان محمد.
قارئ روايات حسن يستوقفه انشغالها بمسألة الهوية، الحاضرة في جذر التركيب النفسي لأبطالها وبطلاتها. هذا كان واضحاً في روايتها \”حبل سري\”، وارتباط بطلتيها بالحياة والتنقل بين بلدين هما فرنسا وسوريا، وذاكرتين أيضاً، بين حاضر البطلة المعاصرة التي تعيش في باريس حاملة معها تساؤلاتها عن الأمس، وبين الأسرة الكبيرة وصراع الهوية العربية والكردية ثم الانتقال إلى فرنسا. أما روايتها \”مترو حلب\”، فمثلت بالنسبة إليها جسراً للتواصل مع والدتها المريضة، الموجودة بعيداً منها في بلد تمزقه الحرب، وقد حملتها أيضاً كل ما فعلته الغربة من تفكيك لمآلات الاغتراب النفسي والواقعي.
في \”نساء حلب\”، تقدم الكاتبة عالم النساء، العالم المتفرد والمنسوج بغموض لا يلبث أن يتكشف رويداً رويداً. فالجدة الأرمينية تعيش بهوية زائفة لعقود طويلة، تنتحل هوية امرأة راحلة، وتحل مكانها، وتتزوج وتنجب أطفالاً، ولا يُماط اللثام عن حكايتها إلا بعد عقود طويلة. تعود الأحداث زمنياً إلى مئة عام تقريباً من مجازر الأرمن وصولاً إلى الحرب الحالية. نجد أصوات نساء حقيقيات، عربيات وكرديات، أميات ومتعلمات، تتكلم كل شخصية بضمير \” الأنا\” تبوح بالمسكوت عنه. إنه سرد يأخذ من تقنية المسرح، كأن تحكي كل امرأة قصتها الحقيقية التي تتقاطع أيضاً مع حكايات سوريا في أزمنة مختلفة، وكأن كل امرأة هنا تجسد عبر حياتها مرحلة من زمن ما.
الرواية المشتركة \”نساء حلب\” (دارسكول فريز)
تتحدث مها حسن، في حوارها هذا عن تجربة الكتابة المشتركة والانتقال من اللغة العربية إلى الفرنسية، وعن تلقي الجمهور الفرنسي لروايتها \”نساء حلب\”، قائلة: \”كنت أشارك في ندوة إثر تقديم فيلم سوري عن الحرب، حين تحدث إلي إسماعيل دوبون، وعرض عليّ أن يجري معي حواراً لمدونته التابعة للحزب الشيوعي الذي ينتسب إليه. بعدما التقينا وتحدثنا، اكتشفنا نقاطاً مشتركة بيننا، أهمها أنه كان مولعاً بسوريا، وقد قرأ لكثير من الكتاب السوريين، بخاصة الذين صدرت كتبهم بعد الحرب. كانت لديه معلومات كثيرة عن سوريا، التي سبق أن زارها قبل اندلاع الحرب وأقام علاقات إيجابية مع أشخاص رحبوا به وبعائلته في مختلف المحافظات السورية، من دون معرفة مسبقة\”.
وتضيف:\”أما أنا، فكنت أشعر أن الإعلام الفرنسي خصوصاً، والغربي عامة، لا يفهم ما يحدث في سوريا، وكي يفهم، يحتاج إلى الأدب أكثر من السياسة والصحافة، وكانت تدور في رأسي خريطة كتابي الشامل والكبير عن سوريا خلال مئة عام. لهذا وجدتني أعبّر لإسماعيل عن رغبتي بكتابة هذا العمل المعقد، الذي لا تساعدني قدراتي اللغوية الفرنسية في إنجازه وحدي، فوافق على الفور على مساعدتي\”.
مها حسن والكاتب الفرنسي إسماعيل دوبون
وعن كيفية مضي تجربة الكتابة المشتركة في الجانب العملي تقول: \”كنت أكتب الرواية على دفعات، أنجز كل فصل بمفرده، بالعربية، وألتقي إسماعيل، الذي لا يعرف من اللغة العربية سوى كلمتي: \”مرحبا وشكراً\”، فأتلو عليه نصي بالفرنسية، بحيث أقوم بالترجمة الشفهية الفورية لنصي العربي، ليقوم بدوره بكتابته بالفرنسية. أنا أيضاً لم تكُن لدي فكرة كاملة، إلى أين سيأخذني الكتاب، لأنه لم يكُن منجزاً بالكامل، بل كنت أكتب كل فصل، بعد الفصل السابق الذي أترجمه لإسماعيل\”.
نص مشترك
أسألها إن كانت ترى في هذا النوع من الكتابة طابعاً تركيبياً، فتقول:\”هذه أول تجربة لي، وأعتقد أنها تجربة جديدة في الكتابة المشتركة، فهي تتم مع شخص يجهل لغتي العربية تماماً، ولا يمكنه ممارسة \”الخيانة\” حين نتحدث عن الخيانة بالترجمة. لذلك، فالنص المشترك يحترم خصوصيتي الفكرية بالتمام والكمال، من دون تدخل إسماعيل الذي كان كريماً ومعطاء بالعمل فقط على المستوى اللغوي.كما أن هذه التجربة تختلف تماماً عن الترجمة المتعارف عليها. لأننا هناك نكتب بلغتنا ونفكر بها، ثم يقوم شخص آخر بنقل هذه اللغة، بينما ما حصل هنا، هو التفكير المزدوج والمتداخل بين اللغتين. فحين كنت أكتب نصي بالعربية، كنت شخصية مختلفة، عن تلك التي، وهي تترجم نصها ذاته، تضيف إليه وتكتشف تفاصيل جديدة، وكأنها تنقلها من عالم إلى عالم. أي كنت شخصيتين معاً، الأولى تكتب، والثانية تعيد الكتابة حين تنقلها بلغة أخرى، فهذه الكتابة لا تشبه كتابتي بالعربية، لأنها مكتوبة وفق طبقتين فكريتين\”.
كيف تصف مها حسن هذه التجربة الآن، بعد صدور العمل وتلقي الجمهور الفرنسي له، تقول: \”شكّل هذا الكتاب امتحاناً كبيراً للحرية، حريتي الفكرية وحرية بوحي لرجل غريب يسمع نصي للمرة الأولى ويشاركني في تدوينه بلا تابوهات. لذا نصف تجربتنا هذه، إسماعيل وأنا، أنها مكتوبة بأربع أيادي. أشعر أن هذه التجربة، تساعدني على تقشير طبقات الهوية لدي، لتفتح أمامي باباً جديداً وواسعاً حول التعرف على ذاتي عبر الآخر، عبر ما يشبه المرآة، حين أرى ذاتي في عين الآخر، الفرنسي. لقد فتح هذا الكتاب رأسي وخيالي على انتماءات جديدة وتقاطعات مع كتابة الآخرين المجهولة بالنسبة لي، قبل لقائي بالجمهور\”.
كيف تختلف رواية \”نساء حلب\” من وجهة نظرها عن سائر أعمالها، أي من جانب المضمون الحكائي، بخلاف تجربة الكتابة المشتركة؟ أسألها فتجيب: \”تنطلق الرواية من جدة أمي، التي عاشت بهوية مزيفة، وأمضت حياتها بيننا على أنها تركية، وعرفتُ فقط قبل أعوام قليلة أنها كانت أرمينية، وقد نجت وحدها من المجازر التي ذهب جميع أفراد عائلتها ضحية لها. من هذا السر العائلي المكتوم، أفردت فصول السرد للنساء السوريات، ليتوجهن بفضفضتهن إلى القارئ الغربي. وبصراحة، هذا الكتاب موجه إلى الغرب، فأنا كتبت قبل ذلك روايات عدة باللغة العربية، وعلى الرغم من إقامتي الطويلة في فرنسا، لم تحظَ أية رواية لي بالترجمة إلى الفرنسية. من هنا، يبدو هذا التناقض في نصي: نساء لا يتحدثن الفرنسية، لكنهن يفعلن في هذا الكتاب، ليجلبن القارئ الفرنسي إلى بيوتهن، ويفتحن حيواتهن، ليفهمنا العالم الغربي. إنها حكايات سوريا، وحكايات سورية، مدونة بالفرنسية، ليفهم العالم الغربي هذا المجتمع عبر نسائه، ويفهم أيضاً لماذا قامت الحرب، حيث بذور العنف والقمع ضد النساء بخاصة، والمجتمع عامة، موجودة قبل الزمن الحالي\”.
العربية هي المرجع
وعن سؤال حول إمكان مواصلتها الكتابة باللغتين، بكون إحداهما تُمثل الجذور والأخرى الحرية، تجيب: \”تبقى العربية لغة التفكير لدي، وتبقى مهارتي ككاتبة ومنطقة لعبي الفني من خلالها، لكن الفرنسية تغويني. وعلى الرغم من تمكني من اللغة العربية، شعرت بحرية الكتابة بالفرنسية التي أُجيدها بدرجة أقل، لأني كسرت التابوهات، لم أخَف ولم أفكر بأي رقيب. كانت تجربة ثرية، بخاصة في جانب استقبال الجمهور الفرنسي للعمل\”.
وتتحدث عن استقبال القراء الفرنسيين لهذه الرواية، قائلة: \”تجربتي مع القارئ الفرنسي بعد صدور الكتاب كانت مفاجئة لي، ولم أتوقع أن أتعلم منها وأحصل على خبرات عظيمة، تجعلني أفكر بتأليف كتاب موازٍ أتحدث فيه عن أثر النساء الفرنسيات في النساء السوريات. الجمهور الفرنسي لديه أسئلة لا تخطر في ذهن الكاتب، يدفعك إلى التفكير والتحليل والنقاش، وباختصار يحرضك على الكتابة، عبر فتح آفاق ذهنية وحوارات جديدة ومختلفة. إحدى القارئات، وصفت سردي بالأسلوب الشهرزداي، أي سرد متقطع، حكاية داخل حكاية، الأمر الذي لم أنتبه إليه وأنا أقطّع فصولي، وأسردها بضمير الأنا، حيث كل امرأة تروي حكايتها الشخصية الموازية لحقبة ما من سوريا\”.
وتضيف: \”قارئة أخرى حدثتني عن الصداقة التي حصلت بينها وبين بطلاتي. وبدا لي الأمر غريباً وفانتازياً، أن تنطق اسم حليمة، أو حنيفة، لتصبح هؤلاء النساء صديقات لميلا، أو سولين أو كاترين.و كأنني أخيط قماشة متعددة الألوان، لأنسج بساطاً سحرياً موحداً، صنعته النساء، ولاقى قبولاً وشغفاً لدى النساء الفرنسيات، بطريقة أقرب إلى الحلم\”.
السؤال الأخير، هل تفكر مها بكتابة هذه الرواية بالعربية، تقول: \”لا على الإطلاق، لأن هذه الرواية موجهة كلّية إلى القارئ الفرنسي\”.
د.لنا عبد الرحمن