60 عاما على رحيل هرمان هسه الذي استنطق سر الحياة روائيا

\"\"

يعلن الروائي الشاعر الألماني هرمان كارل هسه (1877-1962) الذي تحتفي ألمانيا بالذكرى الـ60 لرحيله أن كل الروايات التي كتبها تكاد تسرد سيرة النفس الإنسانية. لا غرابة في ذلك، إذ إن الجيل الألماني الذي ولد فيه مطبوع بتألقات العقد الممتد من عام 1870 إلى عام 1880، شاهداً ولادة توماس مان (1875-1955) وروبرت موزيل (1880-1942) وريلكه (1875-1926) وكافكا (1883-1924). أما الجيل الفرنسي الذي عاصره فاحتضن ولادة مارسيل بروست (1871-1922)، وبول ڤاليري (1871-1945)، وأندريه جيد (1869-1951).

ولد هسه في مدينة كالڤ في مقاطعة الڤورتمبرغ، في أسرة بروتستانتية تلتزم تبشير الأمم غير المسيحية، لا سيما في الهند التي ولدت فيها أمه ماري غوندرت. كان الوالد يعمل في دار النشر البروتستانتية التي يملكها الجد. أما البيئة الروحية التي انغمس فيها هسه منذ نعومة أظافره فكانت ممهورة بطابع الصوفية التقوية البروتستانتية التي أسسها المصلح اللوتري الألزاسي فيليب ياكوب شبنر (1635-1705). من تعاليم التيار الروحاني التقوي هذا اكتساب الهدوئية الجوانية والسلام النفسي بواسطة مخاطبة الله في هيئة المناجاة الابتهالية الحرة المنعتقة من كل شعائر الطقوس وأحكام الأنظومة الدينية. ثمة شخصيات ألمانية بارزة انتسبت أيضاً إلى المذهب الروحاني هذا، من مثل الفيلسوفين كانط (1724-1804) ولسينغ (1729-1781) والأديب الشاعر هلدرلين (1770-1843).

\"\"

روايته الشهيرة \”ذئب السهوب\” بالألمانية (دار سوركامب)

عانى هسه آثار الطفولة المحرومة من جراء دراسته في إكليريكية مولبرون البروتستانتية شمال جبال الألب، فتفجرت في وجدانه ميول العصيان والتمرد. من شدة التوتر الذي انتاب علاقته بأهله، تفاقمت أزمته النفسية التي كانت تدفع به إلى الانهيار المعنوي والرغبة الانتحارية. يبدو أنه كان يعاني انفصاماً خفيفاً في الشخصية يضطره في بعض الأحيان إلى الانزواء والانحجاب.

مخالطة عظماء الفلسفة والأدب

في عام 1895 توجه إلى مدينة تبينغن ليدرس فن إدارة المكتبات، وما لبث أن حصل على وظيفة في مكتبة هكنهاور التي كان مثقفو المدينة يقصدونها من أجل اقتناء كتب الفلسفة واللاهوت والقانون. اغتنم هسه هذه الفرصة لكي يقرأ أهم المؤلفات اللاهوتية ويطلع على أعمال غوته (1749-1832) وليسينغ وشيلر (1759-1805). لم يفته أن ينعم بجواهر الأدب الرومانطيقي، لا سيما تلك التي صاغها نوڤاليس (1772-1801). في تلك الأثناء، أدرك أن الأدباء يركنون إلى مرجعية فنية جمالية تنوب مناب المعيارية الأخلاقية. فالأخلاق عندهم تنبثق من جماليات الإبداع. أراد الأديب الشاب أن يستهل باكورة أعماله بنشر مجموعتين شعرية ونثرية: \”أناشيد رومانطيقية\” (Romantische Lieder)، و\”ساعة بعد منتصف الليل\” (Eine Stunde hinter Mitternacht)، وكلتاهما لم تحظَ بالنجاح المنشود.

محنة الزواج والهروب الصوفي

\"\"
هرمان هسه بريشة بول ميجرينك (صفحة الرسام – فيسبوك)

إثر انتقال أهله إلى مدينة بازل السويسرية، عثر على وظيفة مماثلة في مكتبة تبيع الكتب المستعملة، ولكنه أخذ يختبر في المدينة السويسرية هذه حرية الشاعر الذي يختلي بنفسه في أرجاء الطبيعة الغناء التي تحيط ببازل، ويتنزه في أحيائها وشوارعها وحدائقها يكتشف أحاسيسه ويرصد انفعالاته ويدون انطباعاته. وما إن أقنع الناشر صمويل فيشر بنشر روايته \”بيتر كامنتسيند\” (Peter Camenzind) حتى بدأ يقطف ثمار الشهرة ويجني أرباح ما ينشره متفرغاً كلياً للكتابة. بفضل الشهرة الأدبية هذه، تعرف إلى المصورة السويسرية ماريا برنولي، واقترن بها، وانتقل وإياها للسكن في جوار بحيرة كونستانس (بودنزه) التي تحاذي جنوب ألمانيا وشرق سويسرا وشمال النمسا. من الزواج الأول هذا رزق ثلاثة أولاد.

في ظل الدفء العيلي واحتضان الطبيعة الخلابة، عكف هسه على كتابة روايتين عانى في الثانية منهما (Gertrude) عقم المخيلة وجفاف الإنشاء وقحط التعبير. في هذه الأثناء، طفقت حياته الزوجية ترتطم بمشكلات الألفة الرتيبة واضطرابات امرأته النفسية. فعزم على الانعتاق من هذه الأجواء، فيمم شطر آسيا عام 1911 قاصداً سيلان (سريلانكا) وإندونيسيا، وفي وجدانه تتقد الرغبة في تجديد الاختبار الاستلهامي. غير أن حجه الروحي لم يرو غليله، فقفل راجعاً إلى سويسراً، حاملاً خيبة العقم الروحي. وما لبث أن انتقل وأسرته إلى مدينة برن السويسرية في عام 1912، وأكب على كتابة روايته \”روسهالده\” (Roßhalde) يقص فيها على القارئ محنته الزواجية.

الاشتباك السياسي ومقاومة العنف القومي

إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى، تطوع هسه في سفارة ألمانيا بمدينة برن، وجعل يرتب كتب القراءة التي كانت السفارة ترسلها إلى أسرى الحرب الألمان، فضلاً عن ذلك، أنشأ مجلة أسبوعية \”رسالة الأحد إلى أسرى الحرب الألمان\” (Sonntagsbote für die deutschen Kriegsgefangenen) يدبج فيها المقالات التي تعزي الناس وتواسيهم في مصائبهم وشدائدهم. أما مواقفه السياسية، فأفصح عنها بجرأة منقطعة النظير، إذ أعلن على الملأ أن المثقفين الألمان ينبغي أن يكفوا عن المشاحنات القومية التي لا طائل فيها. غير أن كلامه لم يلق الآذان الصاغية، فهبت معظم النخبة الألمانية تهاجمه وتقرعه وتندد بآرائه، لا سيما بعد أن نشر مقالته الشهيرة \”ليس بهذه اللهجة، أيها الأصدقاء!\” (O Freunde، nicht diese Töne!) في الصحيفة السويسرية الشهيرة (Neue Zürcher Zeitung).

\"\"

عانى هسه الأمرين من جراء تخلي الأصدقاء الألمان عنه، مع أن شخصيات مرموقة أعربت عن تأييدها ومناصرتها، من مثل الأديب الفرنسي رومن رولان (1866-1944) والسياسي الألماني تيودور هويس الذي انتخب رئيساً على جمهورية ألمانيا الاتحادية (1949-1959). لم يكتف هسه بهذا القدر من المعاناة، بل أصابته مضايقات أخرى، لا سيما داخل أسرته، إذ انهارت زوجته انهياراً نفسياً حاداً من جراء انفصام شخصيتها الخطير، واعتلت صحة ابنه مارتين فمرض مرضاً شديداً. من جراء هذا كله، تفاقمت اضطرابات هسه النفسية، فخضع لعلاج عميق في التحليل النفسي جعله يتعرف شخصياً إلى كارل يونغ (1875-1961)، وأفضى به إلى ذروة إبداعية أخرى تجلت في روايته الشهيرة \”دميان\” (Demian) التي نشرها باسم مستعار (Emil Sinclair).

الإقامة السويسرية الملهمة

في إثر انهيار الزوجة النفسي اضطربت العلاقة الزوجية اضطراباً بالغاً فقرر هسه الطلاق وباع بيته في برن وانتقل إلى مقاطعة التسينو السويسرية الناطقة باللغة الإيطالية وأقام في قرية مونتانيولا القريبة من مدينة لوغانو الساحرة. خلبته الطبيعة السويسرية في تلك المنطقة، فآثر الرسم يملأ به شغور الإلهام في فترة انقطاع الكتابة، ولكنه ما لبث أن عاد إليها فكتب روايته الهندية الشهيرة \”سيدارتا\” (Siddhartha) وزينها بما اختزنه وعيه من انطباعات وجدانية اكتسبها في بيت أهله وأثناء ترحاله الآسيوي. في ظلال المشاهد الطبيعية الفاتنة انتعش وجدانه وتفتحت عاطفته فتعرف إلى الرسامة المغنية السويسرية كلاوديا روت ڤنغر، فتزوجها ونال الجنسية السويسرية. في عام 1927 نشر روايته الذائعة الصيت \”ذئب السهول\” (Der Steppenwolf) التي حظرتها الرقابة النازية لاحقاً، ولكنها انتشرت انتشاراً واسعاً لا سيما في الأوساط الأميركية.

\"\"

رواية \”سيدراتا\” (أمازون)

في هذه الأثناء، اختبر هسه الشهرة العالمية فكتب سيرته الذاتية (Hermann Hesse. Sein Leben und sein Werk) الأديب الألماني هوغو بال (1886-1927). غير أن رواية \”ذئب السهول\” جعلته يخالط بعض الأوساط الأدبية الأوروبية حيث تعرف إلى مؤرخة الفن الهنغارية نينون أوسلندر دولبين (1895-1966) التي أصبحت زوجته الثالثة، وألهمته روايته الفلسفية \”نارتسيس وغولدموند\” (Narziß und Goldmund) التي بين فيها الاختلاف التعارضي التكاملي بين الطبيعة الحيوانية والطبيعة الروحية داخل الكائن الإنساني. أما روايته الأخيرة \”لعبة لآلئ الزجاج\” (Das Glasperlenspiel)، فاتسمت بالخيال الطوبوي يرسم فيها شخصية المعلم والقائد الروحي يوسف العبد الخادم (Josef Knecht) الذي أتقن فن لعبة الكتل الزجاجية، واضطلع بمسؤوليات التنوير الفكري في مدينة خيالية من القرون الوسطى. بفضل الإبداعية الأدبية المتجسدة في هذه الرواية، نال هسه جائزة نوبل في الآداب إكراماً لأعماله النثرية والشعرية.

في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين راح يتوجس من صعود النازية، وما لبث أن انتقد علانية تطرفها الإجرامي. وطفق يستقبل النخبة الألمانية المثقفة المضطهدة، من أمثال برتولت برشت (1898-1956) وتوماس مان، بيد أن معارضته الشرسة منعت عنه الإعلام الألماني والأوروبي الخاضع لهيمنة النازية، فلم يعد يستطيع أن ينشر مقالاته السياسية. بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، فتر الطور الإلهامي ونضبت القريحة الإبداعية، فلجأ هسه إلى إنشاء القصائد وكتابة القصص، معرضاً عن الرواية. وما لبث أن انطفأ عام 1962 في مونتانيولا السويسرية، ودفن في المقابر المجاورة.

محنة النضج الإنساني في رواية \”دميان\”

يكشف لنا هسه في روايته دميان أحوال النضج التي يختبرها الإنسان في بناء شخصيته منذ زمن الطفولة حتى البلوغ. ومن ثم، يصور لنا العالمين اللذين يواجههما بطل الرواية الشاب سانكلر: البيئة الداخلية العيلية المتلألئة بأنوار الحب والحنان، والمصونة بقواعد الاحترام والصدق والشفافية والصفاء والبيئة الخارجية المضطربة المتشحة بظلمات العنف والقهر، الخاضعة للمحظورات الاجتماعية الضاغطة. اللافت في اختبارات سانكلر أنه كان يهوى العالم الخارجي لما يحتشد فيه من إغراءات، ولو أنه محفوف بالأخطار المميتة، إذ سرعان ما خضع لرئيس عصابة الحي فرانتس كرومر الذي حرضه على سرقة أموال والديه، بيد أن صداقة رفيقه الجديد في المدرسة ماكس دميان جعلته يدرك أن الإنسان يمكنه أن يسيطر على أفكار الآخرين بفضل إرادته الصلبة.

\"\"

رواية \”دميان\” (أمازون)

ذلك بأن دميان كشف له أن مأساة قايين وهابيل لا تنطوي على خطيئة القتل يرتكبها الإنسان عمداً، بل تدل على فرادة الإنسان المتفوق وقوة شخصيته. في إثر اختبارات شتى، اكتشف سانكلر أن الله لا يستطيع أن يحكم العالم، إذ إن الشر مستفحل، لذلك ابتكر صورة إلهية جديدة (Abraxas) استخرجها من التراث الغنوصي وطوى فيها الخير والشر اللذين يتساكنان أيضاً في النفس الإنسانية. حين يقبل الإنسان معطوبية الحياة، يدرك النضج الحق \”ليست وظيفة الألم والخيبة والأفكار السود أن تفسد طباعنا بمرارتها، وأن تجعلنا نفقد قيمتنا وكرامتنا، بل إن تنضجنا وتطهرنا\”.

الحقيقة المنبعثة من عمق الذات الإنسانية في رواية \”سيدارتا\”

تنطوي رواية \”سيدارتا\” الفلسفية على خلاصة الاختبارات الصوفية التي زين بها هسه وجدانه الرقيق أثناء ترحالاته الهندية، ذلك بأن الشاب سيدارتا كان يبحث عن الصحوة الروحية وحكمة معرفة الذات. غير أنه لم يكن يطيق أن ينتسب إلى المذهب البوذي، إذ إن الانتسابات المذهبية تخنق الروح في توثب يقظته. صوناً لاختبار هسه نفسه، يعلن سيدارتا أن الحكمة لا تنتقل من المرشد إلى المريد، بل ينبغي أن يختبرها كل إنسان في صميم وجدانه حتى يعثر عليها في باطنه الجواني الأعمق: \”حين تقهر الأنا في جميع أشكالها وتفنى، حين تخمد كل الانفعالات والتجارب الصادرة من القلب، حينئذ تحدث المعجزة العظمى: صحوة الكائن الجواني السري الذي يحيا في والذي لن يكون من بعد الأنا\” (سيدارتا، ص 32).

غير أن اختبار الصحوة الروحية يتطلب العزوف عن متاع الدنيا والزهد في ملذات الجسد، لذلك سرعان ما يعتزل الشاب الجميل الطلعة، المتقد الذهن، حياة الناس، على غرار ما فعل فرنسيس الأسيزي في التراث المسيحي، فينضوي إلى جماعة الزهاد المتصوفين السائرين في الأرض الباحثين عن موطن روحي يسكنون فيه، عوضاً عن منازل الحجر الخانقة. من جراء الحرية الكيانية هذه، يرفض سيدارتا أن يعتنق مذهب المستنير بوذا، ويؤثر أن يذهب في سبيله الخاص بحثاً عن استنارة تلتمع في وجدانه. فإذا به ينصرف عن الجماعة، ويسلك درب البحث الذاتي، ويقينه أن \”الباحث الحق الذي يرغب صدقاً في نيل مبتغى بحثه، يجب ألا يعتنق أي مذهب من المذاهب\”.

بيد أن ثمن الحرية الضلال، إذ إن سيدراتا ما لبث أن وقع في غرام كامالا، المرأة الفاتنة التي خلبت عقله وفؤاده، فهوى في أحضانها وطفق يغترف من رحيق أنوثتها، مستسلماً لملذات الحياة. بعد انقضاء بضع من سنوات الشبق الأعمى، عاد سيدارتا إلى رشده وأخذ يختبر رغبة البحث عن الاستنارة الذاتية. فإذا به يلتقي، على ضفاف النهر، المعلم الروحي ڤازودڤا الذي راح يلقنه فن الإصغاء إلى همسات العالم. حينئذ أدرك سيدارتا أن الرياح والغيوم والعصافير والحشرات من أفضل حكماء الوجود نتعلم منها معنى الحياة الحق. على ضفاف النهر، اختبر سيدارتا الاستنارة الأصفى وفاز بالخلاص الأسمى، مدركاً أن الكلام البشري تافه، وأن الزمن هباء ووهم، وأن الألم السبيل الوحيد الذي يقودنا إلى اختبار سر الحياة: \”لا تعرف شيئاً عن الحكمة ما دامت الظلمات لم تمتحنك\”.

\”ذئب السهول\” بين التوحد الانعزالي والمخالطة الاجتماعية

\"\"

رواية \”الرجل الذي شاء أن يغير العالم\” بالترجمة الفرنسية ( ليفر دو بوش)

يكشف لنا هسه في هذه الرواية عن محنة الإنسان الذي تتنازعه شخصيتان متعارضتان: شخصية المتوحد المعتزل التائه في براري الوجود، وشخصية المعشار المنخرط في سلك الاجتماع البورجوازي والمتمتع بمباهج الحياة الخارجية العلنية الظاهرية. يجسد بطل الرواية هاري هالر شخصية هسه نفسه الحائر المعذب المتشائم المستسلم لميول الانتحار ونوازع الفناء. بفضل هذه الرواية، يخضع هسه نفسه لعلاج نفسي ذاتي يجعله يستعيد بسمة الحياة، واختبار البهجة الوجودية، والاستمتاع بلذة التلاقي الإنساني، فضلاً عن ذلك، يضمن الأديب روايته نقداً لاذعاً يوجهه إلى المجتمع المعاصر الذي يفرض على الإنسان كوكبة من الأصنام المزيفة والأوهام الوهمية التي تضلله وتقصيه عن حقيقة ذاته الجوانية، ذلك بأن الإنسان، في نظر هسه، \”ليس كائناً مخلوقاً على صلابة واستمرار، بل جهد وطور انتقالي، ليس سوى الممر الضيق الخطر الفاصل بين الطبيعة والروح\”.

\"\"

رواية بالترجمة العربية (نيل وفرات)

ومن ثم، ينبغي للإنسان أن يناضل من أجل الانعتاق من الأوهام الضارة والمعتقدات المؤذية، فيستعيد رونق الحياة من على المسرح السحري الذي يبسطه له هسه في روايته، ذلك بأن المجتمعات المعاصرة فقدت، في نظره، القيم الإنسانية الهادية، فما عادت تستفظع الحروب وهيمنة التقنية الجارفة وتأليه القوميات وعبادة المال. أما الصراط المستقيم، فيعثر عليه الإنسان في صميم وجدانه: \”ما من إله آخر سوى ذلك الذي يسكن في أعماقكم\”. لا بد، والحال هذه، من توبة وجدانية عميقة تستثيرها في الإنسان المثل الأدبية والفنية الرفيعة التي أفرجت عنها عبقريات الأجيال الكلاسيكية، لا سيما في روائع غوته (1749-1832) وموسيقى موتسارت (1756-1791) الساحرة. يبقى أن تساكن المتوحد المستوحش والمثقف المنادم يولد في وجدان هسه فيضاً من اختبارات وجوه الأنا المنبعثة من رقاد التشاؤم واليأس: \”لا يخفى عليكم أن الإنسان، في حقيقة أمره، مكون من نفوس متمايزة شتى، من عدد كبير من الأنا\”. وعلاوة على ذلك، قد يكون الهزل من أنفع العلاجات النفسية التي يتقنها الوجدان المعذب، على حد قول هسه: \”لكي يبلغ المرء أعلى مراتب الهزل، ينبغي أن يكف عن حمل شخصه الذاتي على محمل الجد\”.

الاستسلام لسر الحياة

يصر هسه في جميع كتاباته على جرأة المغامرة في استجلاء سر الحياة: \”على الدروب التي تفتقر إلى المجازفة، لا نقع إلا على الضعفاء\”. لا بد للإنسان من المخاطرة القصوى التي تبلغ به حدود الكشف الوجودي الأسنى، ولكن الحياة تباغت الذين يعتقدون أنهم بلغوا ملء قوامها: \”تبلغ الحياة ملأها حين تبدو الأشياء، وقد فقدت معناها\”. من جراء المفارقة المربكة هذه، يضطرب فؤاد الإنسان وتتزعزع مسلماته ويقينياته، فيضطر إلى المواجهة الحازمة. غير أنه سرعان ما يدرك أن الحياة لا تخضع لأحكام العقل والمنطق: \”من السيئ أن تجتهد الإنسانية في التعقل المفرط والسعي بواسطة المنطق إلى ترتيب الأشياء التي لا يبلغها التفكير\”. أرسل هسه هذا القول، وفي يقينه أن معاكسة جريان الحياة الحر يبطل سحرها ويعطل قدرتها على إسعاد الإنسان، لذلك لا بد من الركون إلى حركة الوجود والاعتصام بالتعبير الفني، على تنوع مقاماته، من أجل القبول الكياني الذاتي الهني: \”إن الفن الأسمى يقوم في التخلي عن معاندة الأشياء وفي قبول السقوط الذاتي\”.

على قدر ما يرضى الإنسان بالانخراط في لعبة الحياة، يتسنى له أن يغترف من ينبوع إيحاءاتها الدفاق، ولكن ثمن الانخراط باهظ، إذ به يذيب الإنسان كيانه متخلياً عن وهم الاكتمال الذاتي: \”لا يمكننا أن نحيا حياة كثيفة إلا على حساب ذواتنا\”. من الواضح أن هذه الأقوال التي ضمنها هسه رواياته ومقالاته ورسائله تنطوي على عصارة النضج الذي بلغه حين أدرك أن من يريد أن يربح نفسه ينبغي أن يضحي بها على مذبح مباغتات الحياة وطوارئها الانقلابية المتدافعة.

مشير باسيل عون

اندبندنت عربية