إذا كانت الأديبة غادة السّمّان، قد جمعت مختارات من الأحاديث الصحفية، بينها وبين رفاق القلم في كتاب بعنوان \”تسكّع داخل جرح\”، فإنّ الروائية لنا عبد الرحمن، جمعت في روايتها \”بودا بار\”، اعترافات عشّاق معشوقة مخفيّة في حياتها ومماتها، فكانت هذه الإقرارات تخبّطًا داخل موت.
كلّ من يقرأ \”بودا بار\”، يجد وجوهًا مألوفة بين موت وحشيٍّ وآخر عرضيٍّ. تنتمي هذه الوجوه إلى إيقاعات مسكونة بعشرات الاستجوابات غير المفروضة. لكن بالرغم من سلاسة السرد، بقيت نساء الرواية محاصرات بخوف مجتمع الرجل منهنّ، فيتسرّب شعور لدى القارئ، بأنّ الكاتبة تسعى إلى تثبيت ميّزات المرأة فيهنّ، محاولة خلق عقدة نقص الرجل تجاههنّ.
الموت والحياة بطلا هذه الرواية، فقد تقاسما البطولة بجميع مراحلها. فإذا كان موت \”غزلان\” وغيرها من الوفيات الثانوية، قد طبعت الرواية بطابع النقص النفسي طورًا، والحكمة حينًا، واللامبالاة أحيانًا، فإنّ موت البطلة \”جمانة\”- التي تقاسمت البطولة مع \”دورا\”- واختفاء جثّتها، قد وشما الرواية بردود فعل عشّاقها. ويصعب تحديد أين ينتهي عاشق ويبدأ آخر، بسبب سريّة علاقتهم لحفاظهم على مكانتهم في المجتمع. فقد تلقّت وجوههم صفعات هجرٍ لم تغيّر سلوكهم، حتى بعد ممات معشوقتهم. فهم أبناء الفوضى الروحيّة، تجلّى حبّهم بعشق الجسد وليس بهيام الروح، لأنّ المجتمع قد أحاطهم بكلّ سقطاته.
أمّا الحياة الخجولة في الرواية، في خضم الحروب والمآسي، فقد غلبت الموت. فحلم \”دورا\” بالأمومة، جعل مسار حياتها يتغيّر كليًا. وجعلها عشق الحياة بكل هزائمها، تمشي العمر متأبطة أحلامها الموعودة بالأمومة، لذلك ارتضت لنفسها فسحات حبٍّ، خلال عطائها الإنساني في حقل الإغاثة، وسلامها مع الآخرين. واستمرّت تسعى لقطف متعة الحياة عنوة من نواطير الأحلام.
هناك ثمة موجة فلسفية مسموعة بين السطور، يُتقن عقل القارئ الإنصات إليها، والتقاطها. فأول الكلام: \”ليس هناك صدفة الصدفة ضرورة قدرية\”. فقد ظهرت التدوينات التي تشحن المشاعر بالوحشة والغربة والتوق الغامض للدفء الإنساني، هذه هي حرفة الكاتبة الفلسفيّة التي تجعل المتلّقي، يتسلّق الدهشة السردية الفلسفيّة في إشكاليّة الموت والحياة.
جعلتنا الكاتبة، ننصت إلى الانفجارات النفسيّة الداخليّة التي علت صفوة البوح الحالكة، عند عشاق البطلة الميتة \”جمانة\” والتي كان طيفها مسيطرًا على السطور حتّى النهاية، فكانت هذه الانفجارات في تناقضاتها، مشاعر حالكة البياض وناصعة السواد، وهنا كمنت فلسفة الرواية. إنّها ببساطة، سلّطت الضوء على مجاهل النفس الذكوريّة المقموعة، واستخرجت الفلسفة الكامنة في الحياة اليومية للناس جميعًا. ظهر هذا الأمر جليًا في الرواية، وخاصّة عند بوح \”ناصف\”، قريب \”مروان\” زوج الضحية: \”لكن من غير المعقول أن أفكر بزوجة ابن أخي، أن اشتهيها، أن أتمنى مبيتها في فراشي، إنها من نسل حواء الأصلية، الأنثى المغوية التي لم يهذبها الزمن.\” (صفحة 72)
الجسد افتراش لشهوة ترتوي في سريرٍ كاتم لأسرار الآهات واللمسات، لكن للنفس الأبيّة مرايا أُخرى في شتات الروح من دون ملامح، فهل أنّ لغة الأجساد تسمو إلى الأسرار الروحانيّة؟ وهل ما ورد في الصفحة 58 من الرواية يحمل الجسد إلى أبواب مصافي الإحساس الروحاني؟: \”وفي الليل نكون معاً على السرير أيضاً، في كل ليلة تكون هي امرأة جديدة لا أعرفها، وجسدها في كل ليلة يتجدد سحره، كأنها تغسله بماء من فضة، كأني أجهل هذا الجسد، ولا أعرف كل تفاصيله وخباياه، جسدها الأسطوري الفارع، المضيء، اللدن، الذي يبتسم ويئن، يفتح لي أبواب الدنيا كلها، ويغلقها في وجهي في آن واحد.\”
جمعت الرواية الأضداد عنوانًا ومضمونًا. فقد انسحب التناقض بين القداسة والخلاعة في العنوان \”بودا بار\”، على المضمون من جهة الصّراع الأزلي بين الحياة والموت، وخلال هذا الصّراع، كان العشق أطيب قطفة بين هدنة وأخرى، وحبّ الحياة لحظات جوى رغم الموت المنتشر بين الركام.
لماذا يا لنا عبد الرحمن، جعلت الجسد مفقودًا، وأظهرت ندم قاتله، هل لأنه لم يستطع قتل الروح؟ لماذا أيّتها الكاتبة، أظهرت التناقض بين فزلكة الجسد وفلسفة الروح؟ ولماذا جعلت القارئ، يكتشف في أعماق نفسه، مشاعر لم يكن يعرفها، من ولاء مطلق للّذّة، وهروب من القيم الروحانية بالمعنى الحقيقي العميق لكل ما تمثله؟
لنا عبد الرحمن، لم تكتب، بل رصدت أبطالًا وتجسست عليهم، وفي لحظة تدوينها لحياتهم في رواية \”بودا بار\”، أظهرت القسوة التي يتعرّض لها الإنسان في حال اقترابه من النجاح. ونظرت بإعجاب إلى صمت القارئ عند إقلاعه داخل أسرار المهجة والحِمام.
\”عودًا على ذي بدء\”، تقول غادة السّمان: \”لا إجازة لمجانين الكتابة\”، فهل أن جنون الكتابة سكن فكر لنا عبد الرحمن؟ لأنّه لا راحة لكاتبة تضجّ داخل أعماقها أصوات نساءٍ معذّبات.
يوسف طراد
النهار العربي