الروائي دافيد فوينكوس يبحث عن الشفاء عبر الجمال

 

\"\"

الروائي الفرنسي ديفيد فونكينوس 

وحده الجمال يستطيع أن يخلق حالة من التحول مصحوبة بدهشة بريئة تنقذ الحياة من ركودها. يخوض الروائي الفرنسي دافيد فوينكينوس في جوهر هذه الفكرة عبر شخصية أنطوان دوريس بطل روايته \”نحو الجمال\”، وهو أستاذ \”تاريخ الفن\” في مدرسة ليون للفنون الجميلة، يقرر بين عشية وضحاها أن يترك وظيفته، ويتخلى عن منصب يتوافق مع مهاراته المعترف بها علمياً واجتماعياً، ويذهب للعمل كحارس في متحف \”أورسيه\”، من أجل الشفاء الداخلي والبحث عن العزاء عبر التحول نحو الجمال فقط، والغرق فيه.

\"\"

    الرواية في الترجمة العربية 

تنشغل الرواية بمقاربة فكرة الجمال كمفهوم مجرد، هذا بالتوازي مع تقديم الحياة الواقعية للبطل بتحولاتها المؤثرة والحادة. إن الجمال في الرواية، موضع تأمل فلسفي عميق لا يحيد عن اعتباره من القيم المثالية العليا كما الخير والعدل والحقيقة. هنا تحضر عبارة: كل ما هو حقيقي جميل، وبالضرورة كل ما هو جميل حقيقي. فالجمال هنا ارتقاء بالكيان الداخلي للنفس لا يمكن أن يحل بسهولة، إذ يحتاج اكتشافه ومعرفته حقاً إلى التأمل والمران الفاحص لجوهره. وهذا ما يحاول البطل تصويبه في ذاته، والانحياز له، عبر التخلي عن حياة واقعية مضمونة من أجل الانشغال جمالياً في النظر إلى لوحات الفنانين العظماء. البطل متخصص في لوحات \”مودلياني\” لذا يستمتع في تأمل لوحة جين هيبوتيرن، عشيقة الرسام صاحب المصير المأساوي، التي ألهمته العديد من اللوحات. يستمر أنطوان دوريس أحياناً في التحدث مع اللوحة، كأنها صديق مقرب له، باحثاً عن وسيلته الخاصة للعزاء، عبر العلاج بالفن. وعندما كان أنطوان يشعر بالسوء يذهب في نزهة إلى المتحف، ولذا يقرر الفرار إليه أيضاً حيث يجد الصمت، السكون، الفراغ، السلام، والجمال.

ظلال مودلياني

تنقسم الرواية إلى أربعة فصول، في القسم الأول يكتشف القارئ التحول الغامض والسري للبطل أنطوان، ورغبته في الانعزال تحت زعم طموحه لكتابة رواية. وهذا الفصل يحمل بعض البطء في الحركة السردية، مقارنة مع الفصول الثلاثة اللاحقة التي تتصاعد فيها الأحداث وصولاً إلى ذروتها مع الجزء الرابع. وفي الفصل الأول يتعرف أنطوان إلى ماتيلد، المسؤولة عن الموارد البشرية في المتحف، والتي تنشغل بمراقبة هذا الرجل الغامض والصامت، وتلاحظ كيف يتلاشى كلياً في مراقبة لوحات مودلياني. يرتبط مع ماتيلد بنوع من الصداقة، التي تسمح له لاحقاً بأن يطلب منها الذهاب معه إلى المقبرة، لزيارة قبر كاميليا التي عبرت حياته يوماً. هنا نتساءل: هل ثمة ارتباط بين اللوحات التي رسم فيها مودلياني رفيقته جين، وكاميليا؟

\"\"

لوحة الرسام مودلياني التي يقع البطل في حبها 

في الفصل الثاني نتعرف أكثر إلى شخصية البطل وعلاقته بتلاميذه، إذ يعود الكاتب بطريقة فلاش باك إلى ما قبل قرار البطل بترك عمله في التدريس، الذي كان بالنسبة له من أكثر الأمور التي يستمتع بها في حياته، خصوصاً حين يرى الاهتمام في عيون تلامذته، وهو يحاضر بهم عن تاريخ الفن، ويناقش معهم المدارس الفنية واختلافها.

تظهر شخصية الفتاة الشابة المدللة كاميليا في الفصل الثالث، هي وحيدة أبويها تهتم بالرسم ولديها موهبة غير عادية، يحدث تقاطع واقعي وفني بينها وبين أستاذها أنطوان. يحتشد هذا الفصل بنقاشات فنية وفلسفية، إذ تعارض كاميليا في إحدى المحاضرات نظرية لأستاذها، ثم لا تلبث أن تعتذر منه وتقوم بينهما علاقة إعجاب متبادل بسبب الموهبة المميزة لكاميليا. لكن في إحدى المحاضرات وكان مطلوباً من كاميليا الكتابة عن الفنان النرويجي \”مونخ\”، لا تلبث أن تنتقل للكتابة عن دالي، فيعلق الأستاذ على ورقتها بكلمة \”خارج المطلوب\”. بعد هذا الحدث تتغيب كاميليا عن المحاضرات، وينشغل الأستاذ في معرفة سبب اختفائها، الذي سيؤدي لتحولات كثيرة نفسياً وواقعياً.

مأزق الفنان

ينعزل البطل أنطوان عن المجتمع ويتجنب كل التواصلات الاجتماعية، لا أحد يعرف أسباب هذا التحول أو الصدمة التي تعرض لها إلا بعد النصف الثاني من الرواية. تحاول أخته إليونورا الحريصة على مصلحته، التواصل معه، لكنه يتهرب منها إلى أن تتمكن من الوصول إليه وتجده جالساً وحده على كرسيه في صالة المتحف، يمارس عمله كحارس للوحات.

\"\"

      الرواية بالفرنسية (دار غاليمار)

تطرح الرواية تساؤلها أيضاً حول نسبية الجمال، وما إذ كان ذاتياً أو موضوعياً، كأن اكتشاف الجمال لا يحتاج إلى واسطة لأنه يكشف ذاته ولا يمكن حجبه، ولكن يتجلى الاختلاف في نسبية تلقي هذا الجمال. ولعل هذا الاختلاف ظل موضع نظريات فلسفية عدة في القرون الماضية، لكن الرواية تغوص أكثر في تناول تأثير الجمال على الرائي.

تجسد هذه الرواية المأزق الوجودي الداخلي للفنان عبر شخصية \”كاميليا\”، والمنشغل بالفن عبر البطل \”أنطوان\”، الذي تتأجج في داخله الرغبة بالصمت والعزلة والانسلاخ تماماً عن المجتمع لأنه يراه قبيحاً، ويعبر هذا الموقف عن عالمه الداخلي المحتشد بآلام شتى أدت به إلى فقدان التوازن، والنكوص إلى الداخل. وهذا لم يحدث بشكل مفاجئ أو بلا أسباب جوهرية، حيث تكشف الأحداث عن مأزق أنطوان العائلي في تخلي زوجته لويزا عنه، وشكه في وقوعها بغرام رجل آخر. هناك أيضاً قصته مع \”كاميليا\” الفنانة الشابة التي ترسم نفسها بموهبة كبيرة وأصالة، تتقاطع مصائرهما ويتكشف مدى الهشاشة الوجودية التي تتحكم بهما. لكن كاميليا تنتهي حياتها بشكل تراجيدي. ويتوهم أنطوان أنه من تسبب في هذه النهاية لتلميذته، ثم يتضح عبث هذا الظن في الجزء الرابع مع اكتشاف عشرات اللوحات الرائعة الموجودة داخل صندوق في غرفتها ببيت أسرتها.

التلميذة الراحلة

يعود أنطوان لممارسة مهنته في التدريس، ويقرر أن يكرم تلميذته التي غادرت الحياة وهي في الثامنة عشرة من عمرها؛ عبر إقامة معرض للوحاتها في صالة فخمة في ليون يكون هو مديراً لها، حيث يحكي للجميع عن طريقتها المتفردة في الرسم. لا يحيد الكاتب طوال النص عن التأكيد على فكرة \”الجمال\” وقدرته الفائقة على علاج الآلام النفسية، هذا الميل للتأكيد على فكرته يتجلى من خلال أنطوان وكاميليا أيضاً، لنقرأ: \”أدركت كاميليا قدرة الجمال على لأم الجراح\”، \”غاية العمل الفني الوحيدة هي أن يغمرك بأمواج الجمال؛ فتنسى الأحزان مع بوتشيللي، وتخف المخاوف مع رامبرانت، وتتقلص الهموم مع شاغال\”،\” وضع أنطوان نفسه بين اللوحات ليشفى من الصدمة\”، \”الجمال هو الذي سينقذ العالم\”.

ولد دافيد فوينكينوس في باريس عام 1974، وحصل على شهادة في الآداب من جامعة السوربون، كما تلقى تدريباً طويلاً كموسيقي جاز، فهو عاشق للموسيقى ومعجب كبير بجون لينون. صدر له من قبل رواية \”ناتالي والبحث عن الرقة\” التي ترجمت إلى لغات عدة، وتم تحويلها إلى فيلم. وصدرت له رواية \”الطاقة الاروسية لزوجتي\”، و\”الذكريات\”، و\”أنا أفضل بكثير\” و\”شارلوت\” وغيرها من الأعمال الأدبية، التي نال عليها عدة جوائز.

تظل الإشارة إلى الترجمة السلسة والرشيقة للمترجم محمود المقداد، الذي قال في مقدمته عن هذه الرواية: \”لقد كانت هذه الرواية من وجهة نظري الشخصية، مزدوجة. الأولى، بث الوعي بين الناس بشأن الانحرافات الأخلاقية والأخطاء السلوكية التي يرتكبها بعضهم بحق البعض في الحياة الاجتماعية، وتكون عاقبتها وخيمة وكارثية وغير مشرفة لإنسانية الإنسان، بل تكون مهينة للكرامة البشرية. والثانية، الترويج لفن الرسم والدعوة إلى نشر الاهتمام والوعي بهذا المجال من الفنون الجميلة التي تزين حياة الانسان، وتملأ روحه بعبق الجمال وسحره\”.

د.لنا عبد الرحمن 

independentarabia