\”هنا على جبل يشكر، قبل أن تحط سفينة نوح، قبل أن يُبنى \”طولون\”، قبل أن يُبنى بيتنا، يدعونه الآن \”متحف جاير أندرسون\” وكانوا يقولون \”بيت الكريتلية\” ص16.
يمكن لهذه العبارات أن تكشف الكثير عن رواية \”على جبل يشكر\”، للكاتبة رباب كساب (دار النسيم- القاهرة) فما الذي يبقى من التاريخ، وما الذي يتركه لنا الماضي غير الأسئلة، التي نمضي خلفها مع عطش البحث عن إجابات ترقد بين مسامات الجدران، ولا تمنح للسائلين إلا التباس المعرفة! هذا ما سوف يتضح أكثر في الفصول الأخيرة.
يبدو المعمار الروائي في \”على جبل يشكر\” أشبه ببيت متسع الحجرات كل حجرة منه تقود إلى أخرى. اختارت الكاتبة تقسيم روايتها إلى فصول قصيرة، مانحة السرد في معظمه لأصوات نسائية، كل شخصية تُسلم دفة الحكاية إلى أخرى، لنستمع إلى قصة جديدة من زاوية مختلفة، وليس على عادة الروايات التي تعيد فيها الأصوات الحكاية نفسها لكن مع بعض الإضافات. يقف القارئ هنا على حكاية \”بيت الكريتلية\”، ماضيه حاضره، والعالم الميتافيزيقي الذي ينسج الأساطير حوله، فيتداخل الواقع بالحلم والخيال، فتشكل مجتمعة لبنة لبنة بنية هذا الرواية التي تبدأ مع \”راجية\” حفيدة سليمان الكريتلي.
من الواقع إلى الأسطورة
اختارت البطلة راجية السكن في بيت مستقل عن عائلتها، هي موظفة في إحدى الدوائر الحكومية، وقد قررت في لحظة ما أن تنفصل عن أسرتها وتعيش وحدها، على بعد كيلومتر واحد من \”بيت الكريتلية\”، بحيث يُمكنها أن تمضي إلى هناك كل يوم مسحوبة من الواقع إلى أمس ينسج أسطورته حول أيامها. ولا تتحرر راجية من سلطة الأمس المهيمن على كل حواسها، بل إنها تلتصق بسحر الماضي بشكل قسري تعجز عن فهمه، حتى اللحظات التي تظهر لها روحاً لطفية لتوجهها نحو مسار جديد. ترتبط راجية في علاقة حب معقدة مع \”ناجي شمس\” الذي يرفض سكنها وحدها ويعترض عليه، ويساومها على الحب مقابل رضوخها لإرادته. لكن راجية في كل مرة تتركه وتمضي، ترغب بأن تحكي له عن الفتاة الأخرى التي تشاهدها في بيت الكريتلية وعن خيالات الفنجان، لكنها لا تجرؤ على ذلك مخافة أن يتهمها بالجنون.
يمكن اعتبار راجية أساس الواقع السردي أو الجزء الواقعي في النص، فمنها تتفرع الحكايات إلى روافد شتى. تبدو النساء في رواية كساب محملات بالرموز، فالأم \”نور\”، والعمة \”ظلام\”، الخالة راقية هي الميتافيزيقيا بكل تجلياتها، لطفية العائدة من ماض سحيق، في حالة \”ديجافو\” مع راجية، تظهر لها في بيت \”الكريتلية\”، تقول راجية: \”رأيتني أقسم أنها أنا، كنا صورة في مرآة، توأمين… استمر تراجعي وبسملتي وحوقلتي، واستمر تحديقها فيّ وفي ملابسي، كانت أشجع مني اقتربت وهي تسألني عمن أكون؟ وما سبب وجودي في بيتها. كدت أنهار، خرجت من المكان عدواً\” ص 23
يتتبع خيط السرد الرئيس في الرواية حكاية \”بيت الكريتلية\” من خلال أسرة كبيرة العدد لم يبق منها إلا أفراد ابتعدوا عن البيت، بينما تقع راجية تحت تأثيره وتمضي بشكل مسحور يومياً لتعرف أكثر عن الجد الكبير سليمان الكريتلي الذي اشترت منه الحكومة البيت ولم يتبق له إلا لقب \”خادم ضريح سيدي هارون\”. لكن البيت يشتريه الطبيب الإنجليزي جاير أندرسون باشا في عام 1935، وللمفارقة يرتبط الجد سليمان بالطبيب الإنجليزي ويحكي له عن أساطير البيت. ثم تسوء صحة الطبيب ويقرر العودة إلى بلاده عام 1942 ويعود البيت إلى الحكومة من جديد ليصير متحفاً باسم الطبيب.
جني الفنجان
لا تبدو قراءة الفنجان في رواية \”على جبل يشكر\” مجرد فعل عابر تمارسه النساء لتزجية الوقت والتنبؤ بأمور غيبية، بل يدخل هذا الفعل على مدار النص ومع كل البطلات، في تداخل جوهري مع حيواتهن الباطنية والواقعية. هذا يتجلى منذ الفصل الأول في حديث راجية عن أمها وعمتها والعلاقة بينهما، ثم الحديث عن الخالة راقية التي تقرأ الفنجان، وتظن أن ثمة جنياً يرافقها. فالفنجان ينكسر في يد الخالة، ومنذ تلك اللحظة تبدأ مأساتها التي تنفتح على سلسلة من الخسائر. تفقد زوجها، يموت ابنها نور وتعتل صحتها، وتختل ذاكرتها كي تندمج فيها مشاهد من شخصية زوجها ياسر، ومديرها في العمل صبري. تمضي راقية في الحديث عن كليهما في تداخل تام، فهي لا تذكر مثلاً من صاحب ربطة العنق الوردية. هذا إلى جانب حضور شخصية الجني بين البطلات، ليهمس في أذنهن كلمات حاسمة تكون على تماس مع ما يبحثن عنه ويمضين خلفه، لنقرأ: \”غمرتني رائحة الجني وهو يقول لا راحة لها إلا بالحكي، الراحة هنا في هذا المكان\”. ص44
تنتقل شخصية الجني بين البطلات: راجية، راقية، شهد، مها، لطفية، ويبدو فاعلاً في قيامه بالكشف عن الماضي، وفي معرفة بواطن النفوس، وفي تداخل صوته مع الواقع واللحظة الآنية. تقول: \”لم أترك له فرصة ليكمل حديثه، تركتها هي تروي ص44، أيضاً: \”داهمها الشك أن جني خالتها هو ساكن البئر، لكنها لم تتأكد، حتى وإن كان هو، فهي لا تعرف ماذا يريد! لا تعبأ به، قالت بقوة \”فليذهب إلى الجحيم\” ص185.
لا يأتي ظهور الجني في الرواية خارجاً عن سياقه، بل يُعبر في حضوره التفاعلي ضمن حياة البطلات عن التحامه في سياق خطابي واحد للنص ككل. من جانب وجود كتلة الماضي الذي يمثله \”بيت الكريتلية\”، وظهور روح قديمة سكنت البيت \”لطفية\”، وشخصية معاصرة مجذوبة إلى الأمس \”راجية\”، مما يجعل من بقية الشخصيات النسائية والذكورية تكمل هذه الحلقات. لا بد من التوقف أيضاً عند شخصية حبيب راجية \”ناجي\” الذي تفترق عنه لأسباب شتى، والذي اختارت الكاتبة أن تُنهي الرواية معه. هناك أيضاً ياسر زوج راقية، وصبري رئيسها في العمل، شخصيتان يبدو حضورهما انعكاساً لكل ما يدور في العقل الباطن لراقية لتكشف من خلال علاقتها بهما عن كل الاحتمالات الممكنة.
يحمل عنصر الزمن أيضاً دلالاته في هذا النص؛ الفصول الأخيرة \”أنا هنا\” و\”ما زلت هنا\” و\”لن أعود\”، تضم فيها الكاتبة الحكايات والشخصيات بعضها ببعض، الزمن مفتوح، والشخصيات تتمم كل منها الأخرى، وكأنها أرواح تتقلب في دورات لا نهائية، تسكن أجساد ثم تفر منها، ثم تعود إليها أو إلى غيرها. اختارت كساب أن تُقدم إشارات طفيفة للزمن المعاصر وأن تدور الأحداث في أعقاب عام 2011، أي في ما تلا ثورة يناير، حيث تنعكس هزيمة الثورة على \”ناجي شمس\”، الذي اختُتمت الرواية معه، ضمن إشارات ملتبسة لبقية الشخصيات، في تداخلات الماضي والحاضر الغامضة، والجملة الأخيرة في النص \”لا تسأل عما تعرفه يا هذا، هيا انطلق.. لقد حان دورك\”.
تكتب رباب كساب بلغة عذبة ومتماسكة، ليس فيها ترهل أو استرسالات أو إضافات لا جدوى منها للنص. وقد صدر لها من قبل في الرواية \”فستان زفاف\”، \”قفص اسمه أنا\”، \”الفصول الثلاث\”، إلى جانب مجموعات قصصية آخرها \”بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية\” التي صدرت عام 2018.
د.لنا عبد الرحمن
independentarabia