ألبير كامو والعدمية المرحة

\"\"

 قُدّر على الإنسانية أن تعيش أزماتٍ طاحنةٍ في كل مرحلة تاريخية وتختبرَ تجارب قاسية، وكلما وقع الاصطدامُ مع تحدّيات جديدة سادَ الاعتقادُ بأنَّ بوادر النهاية قد أصبحت أكثرَ وضوحاً وستطوى الحياةُ على كوكب الأرض.

ويبدوُ أنَّ ما شهدتهُ رحلة الاكتشافات العلمية والقفزات المَعْرفية من الزخم والتصاعد لم تغيّر القناعةَ بأنَّ الحياة هشة بقدر ما هي معجزة ممتعة، ومغامرةُ لا تخلوُ من الأخطاء، وفي الواقع أنَّ تأريخ البشر هو تاريخ الأخطاء وليس الحقائق على حدّ تعبير ألبير كامو.

واللافتُ أنَّ المخاطرَ قد ازدادت تعقيداً مع ما تمّ تحقيقهُ على مستوى الانطلاقات الحضارية وتدشينٍ للعهود التي لا يعلو فيها صوت على صوت العلم، وبالتالي تراخت سلطة السحر الذي كان يغلفُ العالم.

والحالُ هذه، كيفُ يمكنُ أن نفهمَ المشهدَ؟ هل خسرَ الإنسان جدارته بإدارة حياته حراً، لذلك يجبُ العودة به نحو مظلّة الوصايات اللاهوتية والإقرار بقصوره العقلي، وأنّ ما سُمّي بالتنوير ليس سوى فجرٍ كاذبٍ؟ بالطبع فإنَّ مناقشة هذه الأسئلة الجوهرية التي تضع صدقية مفهوم التنوير أمام المَحك، تتطلبُ البحث عن أفق آخر لا يُلغى فيه قيمة الإنسان ويُضرَبُ بإمكانياته بعرض الحائط، كما لا يتمُّ فيه تجاهلَ جنوح هذا الكائن المدمّر المعجون بالعنف والأنانية. ولعلَّ الروائي والمفكّر الفرنسي ألبير كامو هو أكثر من أدرك طبيعة هذه الإشكالية، وذلك تراه في قوله: \”كل من يعلّقُ آماله على الإنسان مجنون، لكن من ييأس من الأحداث فهو جبان\”. إذاً فإنَّ صاحب \”الموت السعيد\” لا يبشّرُ بأفكار خلاصية وينكرُ نصب المفاهيم المحدّدة على أنّها غاية للتاريخ، ولا يعلنُ أيضاً أنَّ الهاوية المُعتمة هي المصير المحتوم. تقومُ أعماله الأدبية والفلسفية على هذه الثيمة لإضاءة ما يؤكّد الخطأ المبدئي في الآيدولوجيات الساعية إلى تطويع حركة التاريخ لخدمة منحوتات فلسفية وفكرية. وقطع الطريق أيضاً على دعاة السوداوية.

الأفول

تبدأُ الكارثةُ برأي ألبير كامو عندما يتقمّصُ طرفُ دور القدر ويُصدرُ الأحكامَ على ما يعتبرهُ رعيةً له. هذا الموضوع عالجهُ في مسرحية \”كاليغولا\”، إذ أنَّ السئم ينهشُ أعماق كاليغولا إلى أن يقودهُ الأرق نحو الجنون، ويتضخّمُ كابوس اللامعنى لدرجةٍ أن يتمّ رصد وسام البطولة للمواطن الذي يكون أكثر مداومةً على ارتياد دار البغاء. ما يعني أنَّ الحُبَّ قد اندثر ويكونُ الأفول الأبدي للمعنى وشيكاً، والأسوأ في هذا المناخ هو انسحاب القيم وتغول منطق القوة. وما أنْ تفتحُ فوهة العدمية على سعتها حتى يستعيدَ ذهنُ المتلقّي ما سرده سيبيون على لسان كاليغولا، الذي قال له إنَّ طريق الحياة وعرة وشاقة دون مساعدة الدين والفن والحب، لكن من أينْ يستمدُ الإنسانَ الشعور بالمواساةِ يتوارى في عالم يتوارى فيه الدينُ ويدجنُ الفنُ ويتشئُ فيه الحب؟ من هنا نفهم مدلول ما ينطقُ به كاليغولا \”كم هو صعب ومرُّ أن يصبحَ المرءُ إنساناً\”. عليه، فإنَّ السؤال الذي يفرضُ نفسه في هذا السياق، هو ما السبب وراء تكبّد الكائن البشري لكل هذا العناء؟ لا يمكنُ تفسير هذه الحالة إلّا بناءً على معرفة طبيعة الإنسان، وهو مخلوق وحيد يرفضُ أن يكون ما هو عليه، لعلَّ في شخصية \”سيزيف\” الأسطورية إستعارة أوضح لصراعٍ مضنٍ مع دورة الأيام المترنحة من الخواء. إذاً المللُ هو ما يقضُّ مضجع الإنسان، كذلك اللامعنى. وإذا كانت الحياةُ خاليةً من المعنى وسلسلة مشاهدها العبثية لا تزيدُ الروحَ إلّا سقماً، هل هذا يعني أنَّ الانتحار هو البديل؟ ويرى كامو أنَّ هناك مشكلةً فلسفيةً واحدةً وهي الانتحار، بمعنى هل تستحقُ فرصتنا الوجودية كل هذا الصراع؟ طبعاً لا يكون البديل في الموتِ، لأنَّه لا يقهرُ اللامعنى ولا يضعُ حداً لدراما العبثِ. لذلك، ربما الوصفة الأبيقورية التي يقدّمها كامو هي الخيار الأمثل للتخفيف من حدّة العبث. إذ لا مناص من الخروج والاستمتاع بأشعة الشمس والذهاب إلى النزهة على الشاطئ ولعب كرة القدم وتذوّق وجبة الطعام مع أحد الأصدقاء، والاحتفاء بفرصتك الوجودية مستمتعاً بها قدر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. فالحقيقة بنظر مؤلف \”الإنسان المتمرّد\” قائمة في الواقع البسيط، لافتاً في \”أسطورة سيزيف\” إلى أنَّ الأعمال العظيمة تولدُ في الشارع، كما أنَّ للأفكار والفلسفات الملهمة بداياتٍ مضحكةِ. وهكذا بدأ تاريخ الفلسفة مع ضحكة أطلقتها فلاحةُ من تعثر طاليس وهو يمشي متطلعاً إلى السماءِ.

نهاية الثنائيات

لا يزالُ كامو متربّعاً على المشهد الثقافي والفكري. وما أنْ داهم وباء كورونا العالم بهجمته الشرسة حتى تصدّرت رواية \”الطاعون\” قائمة أكثر الكتب مبيعاً ومقروئيةً، وجاس المحجورون برفقته في أزقة وهران المسكون بالخوف والأشباح. كذلك الأمر عندما تدوّي صفارات الحرب نعاينُ من جديد مقالات كامو التي كتبها خلال انقسام العالم إلى القطبين الإشتراكي والرأسمالي، وهو يؤكدُ أنَّ العالم الذي يسعى إليه أُناس مثله ليس عالماً لا يقتلُ فيه البشرُ أحدهما الآخرَ، موضحاً أنَّه ليس بهذا المستوى من الجنون. بل كل ما يطالبُ به هو وجود عالمٍ لا تتمُّ فيه شرعنة الجريمة.

وفي محاضرة ألقاها في جامعة كولومبيا، يشير كامو إلى أنَّ فساد العالم القديم بدأ بمقتل سقراط، مضيفاً، أنَّ العالم الحديث قد أسرف في مقتل كثير من أمثاله. ويذكرُ في حيثيات كلامه ما تعنيه الروحية السقراطية من التساهل تجاه الآخرين والصرامة تجاه الذات، معلقاً أنَّ هذا الإطار الذهني يمكن التعويل عليه لإصلاح العالم. وما هو ضروري بالنسبة لكامو هو رفض عبادة الأحداث والحقائق والثروة والسلطة. ويتناولُ ثلاثة نماذج مؤثرة عن التصحّر الروحي وتغلغل الشر والعبث في عقلية الإنسان المُعاصر. ومن ثُمَّ يؤكدُ أنّ السؤال عن الاعتقاد لم يعدْ مجدياً ولا مناسباً لحجم التحدّيات، بل السؤال الوحيد الذي يجبُ ألّا يغيبَ عن أفق التفكير هو، هل سنقبل عالماً لا يمكنُ أن نكون فيه سوى ضحايا أو جلادين؟ مؤكّداً في سياق حديثه أنَّ هذا التمييز وهم، وما أردنا أن نكون أياً منهما، فأن تقتلَ أو تُقتلُ كلاهما يرقيان إلى النتيجة نفسها.

وما يتميّزُ به كامو هو تواضعه وبصيرته المعرفية الفكرية وإدراكه العميق لإغراءات القوة. فالتاريخ حسب رأيه ليس سوى جهد بائس يبذله الإنسانُ لتحويل أحلامه الأكثر وضوحاً إلى حقيقة. لكن هذا الدرب الفاصل بين الحلم والحقيقة قد يكلّفُ أثماناً باهظة. لذلك يقول المفكر الوسيم في خطابه أمام الأكاديمية السويدية: \”يشعرُ كل جيل بلا شك بأنَّه مدعو إلى إصلاح العالم وإعادة تشكيله. يعلمُ جيلي أنَّه لن يصلح العالم لكن مهمته ربما تكون أكبر، إذ عليه منع العالم من تدمير نفسه\”. يُذكرُ أنّ ألبير كامو على الرغم من مرحه وافتتانه بالحياة واختياره الحبَّ بوصفه مهمته الوحيدة، قد مرَّ بلحظات يئس قاسية، وهو يقولُ: \”هناك أوقاتُ أعتقد فيها أني لن أستطيع احتمال التناقض بعد الآن، عندما تكون السماء باردة ولا شيء في الطبيعة يدعمنا\”.

صفوة القول بشأن ألبير كامو، أنَّه فيلسوف الحياة، ولا توجدُ حقيقة في فلسفته توازي حق الإنسان بالحياة سمواً وقيمةً. لذلك ما تضمهُ مؤلفاته الروائية والمسرحية من الأفكار غير المثقلة بالإرث الإيديولوجي، وما نُشر له حديثاً باللغة العربية \”لاضحايا ولاجلادون\” يحتفظُ براهنيتها. يعلّمك كامو أن تعيشَ متخيلّاً بأنّ الحياة لن تنتهي، وعندما تتوقف فالأمر يفوق موجبات الرغبة والإرادة.

كه يلان محمد: ميدل ايست أونلاين