نأسف ، فربما يكون هذا الطرح من النوع المقبض ،أو أنه لايجاري أحداث ساخنة على الساحة ،أو ربما هي مشاعر شخصية تخص كاتبها ،لكنني أرى أن تجربة الألم هي حالة إنسانية ربما تستحق الكثير من التأمل والتمحيص ، وقد جاءت الفرصة وعايشتها كما لم يحدث لي منذ سبعة عقود ،ولقد اكتشفت حصيلة من المشاعر والأحاسيس الحقيقية التى كنت أسمعها وأسمع عنها فقط ، واكتشفت أيضا مدى الفارق الهائل بين أن تسمع عن شئ وأن تعايشه أو تحس به .
والألم هو صراخ الجسم البشرى للتنبيه عن عطب أصاب عضو من أعضائه، وكلما كانت الاصابة جسيمة كان الصراخ عاليا أو الألم شديدا، وللألم تابعيه أو توابعه ففي حضرته تتضائل كل اأشياء الرغبات والأمنيات والشواغف وحتى الحواس وتتضاءل حتى الرغبه في الحياه ذاتها ،وتنسج الكآبه خيوطها حول روح الانسان ومن يستغرب حالات الانتحار وكيف يلقي انسان بنفسه إلى التهلكة لم يجرب الألم ، فكما يتألم الجسد تتألم النفس وكما تخرج آهات الأجساد العليلة من الأفواه ساخنة دامعة تخرج آهات النفوس الحزينة المتألمة من شغاف القلوب محملة بالعزوف عن الحياه .
والأجساد في جدة الحياه تفرز غددها مسكنات تخفف ولو نسبيا من موجات الألم ،لكن مع التقدم في العمر تشيخ الغدد والخلايا وتتكاسل عن افراز تلك المركبات مما يستوجب تناول أدوية ومركبات تحاول تثبيط مراكز الاحساس بالألم ،وهى تتدرج بين المسكنات البسيطة لحالات للآلام الشائعة الى المخدرات القوية للأمراض الخبيثة التى تنتج آلاما تفوق الاحتمال البشرى وهى كثيرة .
والاحباط واليأس هما رفاق الألم وتابعوه ،فما إن تشتد موجاته تظلم الدنيا في الأعين ، ويهتز كيان الانسان كله ويتسلل إلى النفوس شعور العجز والمهان’ والضعف والاحتياج وبالأخص عندما يكون الانسان من ذاك النوع النشط الدؤوب .
وأنا وقد تجاوزت السبعين ويستغرب كثيرون حولى أنى لاأزال متشبثا بالحركة وبالعمل ولا يملوا إسداء النصح لي بضرورة الراحة والاعتزال الا أن طبيعتى ونمط حياتى كانا يرفضان ذلك بشده بالاضافة بالطبع للرفض الغريزي بالاعتراف بالواقع .
ثم جاءت اللحظة الفارقة ، حيث سقط من ارتفاع خطر عندما زلت قدمي أثناء ارتقاء سلم لإصلاح شئ مما اعتدت إصلاحه أو صيانته وكسرت قدماي ،واعتقلت في سجن سريرى وأصبحت ــ أنا الذي كان بعضهم يتندر علي بأنه يمكن أن أتواجد في مكانين مختلفين في وقت واحد ــ أصبحت سجينا لا حول لي ولا قوة ،وياليتنى كنت سجينا فقط ولكن سجينا يتألم ، وياليته ألم محتمل لكن من جرب ألام العظام المكسورة يعرف أن كلمة آلام مبرح’ هو تعبير مخفف وخصوصا في السن المتقدمة، ناهيك عن شعور العجز والمهانة وخصوصا مع الرحلة الى مكان قضاء الحاجه والعوده منه، فهي جحيم معاناة من الألم الجسدي ومعاناة أكبر من الألم النفسي .
وان كانت التجربة قاسية الا ان لها جانبها الايجابى فعلى الانسان أن يطوع نفسه ويكبح جماح كبريائه وأن يعترف بأحكام العمر والواقع ،وعلى الانسان العاقل أن يعرف أن العمر شرائح سنيه كل شريحة لها قواعدها الى يتحتم الالتزام بها التزاما صارما اذا ماكان الانسان يريد العبور بسلام الى مستقره الأخير ،أما الوقوف عند مرحلة معينه والاعتقاد بأنها مرحلة مستدامه فهو وهم دفعت أنا محدثكم ثمنه باهظا .
وقد منحتنى هذه المحنة هبات انسانية كثيرة منها معرفة ماذا يفعل الألم بالانسان ومعرفة قيمة أن يشاركك آخرون وجدانيا في التخفيف ولو بمجرد السؤال وعرفت أيضا مدى ضعف النفس البشرية مهما كانت ضخامة هياكل أجسادها وعرفت مدى احتياج الانسان لانسان ودروس وعبر كثيرة ماكان يمكن اختبارها الا مع التجارب وخصوصا تلك التى يصاحبها ألألم .
عيد اسطفانوس