عندما تكون الرواية قناعا للسيرة في \”خيوط أقمشة الذات\”
ينتمي نص \”خيوط أقمشة الذات\” للكاتب المصري عادل أسعد الميري (دار إيبيدي مصر) إلى أدب السيرة الذاتية، هذا بخلاف كلمة \”رواية\” التي اختارت دار النشر وضعها على الغلاف. ولعله من الشائع أن الإشكالات النظرية للسيرة الذاتية الروائية يكمن جزء منها في صعوبة الاتفاق على مقومات عامة تصوغ لها وضعاً شكلياً وضمنياً محدداً بين الأجناس الأدبية، وذلك بسبب تداخلها البين مع الفن الروائي. فالسيرة الروائية تجمع في نسيجها ودلالاتها عناصر السرد الروائي وأبعاد السيرة الذاتية في آن واحد، إلا أن البعد الطاغي في السيرة الذاتية هو العنصر السيريّ الذي يكتسب ملامحه من رغبة المؤلف في البوح عن ذاته وكشف ماضيها. لذا يظل الجدل في مشكلة التعريف لضرورات منهجية للباحث لتحديد زوايا ومناطق بحثه من ناحية، ولأغراض تتعلق بالنشر وتصنيف الكتاب من ناحية أخرى.
يكتب عادل الميري سيرته الذاتية بما يغطي قرابة ربع قرن من حياته، وتتحدد العناصر المعمارية في هذا النص من خلال اعتماده على تقسيمها إلى ستة أقسام أو فصول، يبدأها مع \”القبيلة\”، واختيار هذه المفردة يكشف للقارئ أن الكاتب يعود إلى البدايات الأولى الحاضنة التي انطلق منها، الأسرة وتأثيراتها القوية مع اختياره جملة افتتاحية صادمة كما ينبغي للسيرة الذاتية أن تكون، يقول: \”لم يكن أبي يحب والديه، بل حتى لم يكن يحترمهما، وقد مات جدي لأبي سنة 1966… هل كان أبي يخجل منه لأنه كان موظفاً بسيطاً في البريد المصري؟ هل كان يعتبر أن زواجه من ابنة طبيب هو انتقال بين الطبقات؟ هل كان السبب هو تعالي أمي عليهما؟ كل هذه الأسئلة تظل حتى الآن بلا أجوبة قاطعة، بسبب أنني لم أكن أبداً على تواصل حقيقي بأبي حتى وفاته في 2006\”.
تقليب الذاكرة
يتمكن قارئ أسعد الميري، سواء في عمله هذا، أو في أعماله السابقة مثل \”لم أعد آكل المارون غلاسيه\” و\”كل أحذيتي ضيقة\” وغيرهما، من ملاحظة مدى انشغاله نصياً بتقليب ذاكرته، ومواجهة تفاصيلها بكل ما تحمله من أثقال جارحة، ومسرات حقيقية أو متخيلة. يبني الميري نصوصه من فعل المواجهات واختيار ما يود البوح به، بعبارة أخرى يمكن القول إنه يهجس باستمرار بفكرة \”تعرية الذات\” للوصول إلى جوهر الحقائق بما يتعلق به أو بمن عرفهم وعايشهم. وهو في كتابته هذه يحاول سردها ببساطة وتلقائية شديدة، تنفي أي نوع من الخجل أو الارتباك أو التردد للجهر بها، ولعل هذه المعطيات هي أكثر ما يحتاجه فن السيرة الذاتية، النفاذ إلى أعماق الذات، ثم القدرة على صوغ الحقائق التي رآها في ارتحاله الأعمق، أي تفتيت مركزية العالم الخارجي كله، واحتضان مركزية الذات.
قسم الميري سيرته إلى عناوين صغيرة ضمن الفصول، مما ساعده على إحكام الوحدة السردية من دون استرسال مسهب في السرد، فبدت سيرته أشبه بقصص قصيرة متجاورة. بيد أنه عمل على التنقل بين الماضي والحاضر بخفة ضمن مقطع واحد، ماضي العائلة الاجتماعي والنفسي يتقاطع بشكل ما مع حياة الكاتب واختياراته. وربما من هنا جاء اختيار عنوان \”خيوط أقمشة الذات\”، إذ ليس من خيط واحد، ولا قماش واحد، بل تحضر المفردتان بصيغة الجمع لتؤديا معاً إلى ذات واحدة للكاتب.
نرى أيضاً كيف يشتبك التاريخ الشخصي مع العام، ونعرف مسار العادات والتقاليد وتحولاتها، يقول \”نلاحظ استمرار إطلاق أسماء أجنبية على الأطفال، إلا أنه من الملاحظ كذلك أن الأسماء في ذلك الوقت كانت أكثر ميلاً إلى الثقافة الفرنسية، وليس إلى الثقافة الأميركية مثل الوقت الحالي\”.
القراءة والطب
تحضر التفاصيل الذاتية لمرحلة المراهقة والشباب في فصل \”المدارس\” الذي تدور أحداثه في السبعينيات، يحكي عن رؤيته كطالب للمجتمع الدراسي، العلاقة مع اللغة العربية والروايات المفروضة للقراءة من قبل المدرسة: \”نداء المجهول\” لمحمود تيمور، و\”وا إسلاماه\” لعلي أحمد باكثير، و\”أبو الفوارس عنترة\” لمحمد فريد أبو حديد، ثم هناك الروايات الإنجليزية مثل \”قصة مدينتين\” لديكينز. لكن ينتهي هذا الفصل مع عنوان \”لن أكون طبيباً\”، حين يكشف الكاتب عن إدراكه أن مهنة الطب لا تناسبه، بسبب الممارسات غير الإنسانية لبعض الأطباء في المستشفيات الحكومية، وإحساسه بالعجز عن تحمل مشاهد الاستهتار بآلام المرضى، لنقرأ: \”كرهت الممارسة الطبية لما فيها من عشوائية بسبب قلة الضمائر، وبسبب الإهمال واللامبالاة التي يدفع ثمنها المرضى الفقراء\”.
يبدأ النص في انفتاحه على العالم أكثر بدءاً من فصل \”القراءة\” تفاصيل الصلة مع الكتب والمجلات وذكره أسماءها ثم إصابته بما يسمى \”الهلع الثقافي\” أي الرغبة في قراءة كل شيء، وافتتانه بأدباء كبار تأثر بهم. وتتكشف في هذا الفصل أيضاً ميول الكاتب نحو اللغات وغرقه في اكتشاف عالم اللغة الفرنسية وإبداعاتها، ولعل هذه العلاقة تتضح تفاصيلها أكثر ضمن كتابه في أدب الرحلات \”تسكع في باريس\”، وفيه يسرد بعض تفاصيل البدايات عن تكون العلاقة مع فرنسا على مستوى اللغة والأدب والمكان. لعل أهم ما يكشفه هذا الفصل هو أن القراءة شكلت دليل الكاتب للعلاقة بالعالم ككل، فكل ما يود معرفته عن الأمور الكبرى يسعى إليها من خلال الكتب، فالحرب بين مصر وإسرائيل قادته إلى فهم طبيعة منطقة سيناء من النواحي الحربية عبر قراءة كتاب وضعه مؤلفه أثناء حرب 1967.
إلى جانب الكتب، شغلت السينما حيزاً كبيراً من اهتمام عادل الميري، فقد أفرد الفصل الرابع للحديث عن علاقته مع أفلام معينة، وما دلالاتها بالنسبة لتشكيل وعيه الثقافي والمكاني. فمن خلال الفيلم يتحدث عن بعض الأماكن والبلدان، وتأثيرها على مخيلته، مثل فيلم \”الموت في البندقية\” المأخوذ عن رواية توماس مان، وبعض الأفلام الأميركية والعربية، أيضاً فيلم بازوليني \”المسيح وفقاً لما جاء في إنجيل متى\”، والأفلام الوطنية التي يصفها بأنها لعبت دوراً مهماً في تنمية الحس الوطني لديه بأكثر ألف مرة من أي كتاب مدرسي. ينتقد المري أسرته لأنها السبب في عدم تنمية الإحساس الوطني لديه قائلاً: \”كان هذا في الأساس بسبب الأسرة الرجعية المحافظة، وكذلك إلى حد ما بسبب الانتماء إلى دين الأقلية\”.
تضمن الفصل الخامس \”الرحلة إلى إنجلترا\”، تفاصيل انتقال طالب ريفي مصري للدراسة في مدينة الضباب، وما يحمله هذا الانتقال من انكشافات لمعان جديدة في الحياة، سواء على المستوى الذاتي أو الثقافي والمكاني.
ولعل الحديث عن التقاطع بين السيرة والرواية يتجلى بوضوح في الفصل السادس الذي يحمل عنوان \”رؤى وأحلام\”، فإذا كان الفن الروائي قائماً على التخييل، فإن سيرة عادل الميري في هذا الجزء تبدو مخاتلة فيها بعض المراوغة، عبر وضع أحداث يشتبك فيها الواقعي والفانتازي على أنها أحلام، رغم أن بعض أجزائها يبدو واقعياً جداً كما في الحلم الذي يحكي فيه عن فرانسواز، السيدة التي أقام معها علاقة غرامية ثم جاءت إليه برفقة شاب في العشرينات من عمره وأخبرته أن هذا ابنه، وكان التشابه بينهما متطابقاً لدرجة أذهلته. يمكن اعتبار هذا الفصل تجاوزاً للسيرة الذاتية إلى التخيل، وفي ذلك تطوير ودمج للعملية الإبداعية السيرية والروائية في آن واحد.
لنا عبد الرحمن
independentarabia