كيف يُمكن أن يحدث التخلي ببساطة، هجران الحياة الآمنة، والارتماء في أحضان المجهول؟ ثم الركض لُهاثاً خلف الولع بالكلمات وما دار حولها؟ لكن هذا ما يحدث حقاً، للقادمين من عالم مهن معتدلة لا تجنح إلى الشرود (الهندسة، الطب، الصيدلة، القضاء)، وغيرها، مهن يقوم عمادها على معادلات علمية ومنطقية، لا على التخيلات والافتراضات وعالم الأبطال وهواجسهم وأحلامهم.
ربما هو التباس العلاقة مع الزمن والخوف من مروره من دون تحقيق الأحلام، ثم غواية الضوء المشع المغري بالكتابة، يدفعان في لحظة ما إلى المراوغة أو التخلي، إلى التوقف مع الذات والقيام بمواجهة حقيقية مع كل ما كان، ثم الاعتماد على حواس بصيرة لتلمس الطريق الجديد والمضي نحوه، اختيار الكتابة لتكون وحدها رفيقة الحياة، أو الإبقاء على الكتابة مع الاحتفاظ بواقع حياتي مواز يساعد على الاستقرار.
مهنة ودخل وفير
الانتقال من مهنة ثابتة تُدر دخلاً وفيراً، إلى عالم الإبداع في كل أنواعه، يحدث في كل وقت. هذا ما فعله المبدع الفذ يوسف إدريس حين هجر الطب من أجل القصة القصيرة وفن المقالة. أما الروائي السوري عبد السلام العجيلي فجمع بسهولة بين الطب الذي تخصص به وعاش منه، وبين الكتابة التي أبدع فيها أعمالاً كثيرة. ولا ننسى الروائي والشاعر السعودي غازي القصيبي الذي تخصص في المجال العملي ليجيء الكتابة وينصرف لها، مبدعاً اعمالا في حقول شتى. وترك الكاتب المبدع محمد المخزنجي عالم الطب النفسي ليمضي نحو الكتابة، وإن ظلت قصصه القصيرة محملة بآثار ودلالات كبيرة لمعرفته العلمية والمعرفية في عالم النفس الإنسانية. هذا ما نجده في مجموعته \”أوتار الماء\” و\”صياد النسيم\” و\”رق الحبيب\” وفي معظم قصصه الأخرى. أما الروائي محمد المنسي قنديل، فقد هجر الطب أيضاً ليكتب في الرواية وأدب الرحلات، فأبدع عدة أعمال روائية أثرت المكتبة العربية مثل \”انكسار الروح\” و\”قمر على سمرقند\”، و\”الكتيبة السوداء\”، ثم جات روايته الأخيرة \”طبيب أرياف\”، لتقدم مرحلة من حياة طبيب عاش زمناً في إحدى قرى الريف المصري.
الكاتب يوسف إدريس
تطول القائمة لتشمل صاحب \”عمارة يعقوبيان\”، الطبيب الروائي علاء الأسواني، أشرف العشماوي القاضي الذي يُفضل لقب الأديب، والذي أصدر العديد من الأعمال الروائية، آخرها \”الجمعية السرية للمواطنين\”. لا تخلو هذه القائمة من أسماء كاتبات أيضاً، بدءاً من نوال السعداوي، التي جمعت في مراحل حياتها الأولى بين الطب والكتابة، فأصدرت \”مذكرات طبيبة\”، ومؤلفات أخرى تداخلت فيها الكتابة العلمية مع الابداعية مثل \”المرأة والجنس\” و \”الرجل والجنس\”. ثم في مرحلة لاحقة تفرغت الكاتبة الراحلة لكتابة المقالة والقصة والرواية، إلى جانب كتبها الفكرية المختصة بقضايا المرأة.
الروائي والطبيب السوري عبد السلام العجيلي
هناك أيضاً الكاتبة الطبيبة عزة رشاد، التي مارست الطب إلى جانب الكتابة، وصدرت لها أعمال تنوعت بين القصة والرواية، أبرزها روايات: \”ذاكرة التيه\” و \”شجرة اللبخ\”، و \”حائط غاندي\”، وقصص \” أحب نورا أكره نيرمين\”.
أما الكاتبة رباب كساب، المهندسة الزراعية صاحبة روايتي \”فستان فرح\” و \”على جبل يشكر\”، فقد جاورت أيضاً بين مهنتها وكتابتها الروائية، ولعل هذا الاختيار للتجاور بين عالمين يشكل الغالبية العظمى من اختيارات المبدعين والمبدعات.
الروائي والطبيب السوداني أمير تاج السر
هل حقاً العلاقة بالكتابة هي \”شيء في الجينات\”؟ الروائي أمير تاج السر، الذي جاءت إليه الكتابة منذ الطفولة جنباً إلى جنب مع القراءة، كتب الشعر ثم الرواية، ومن حينها لم يتوقف الأمر، ويرى أنه: \”لا يمكن التخلي عن الكتابة لأنها مسألة جينية\”، ويعتبر أن الكتابة تجاورت في حياته مع الطب، وكانت أبواب كليهما مشرعة بعضاً على بعض في تجاوب منسجم الهوى، لا يخلو من لحظات قاسية، حين تميل كفة ميزان أحدهما فيطغى على الآخر. فالطب \”عالم فذ فيه الكثير من الحكايات التي قد لا يعرفها من لم يعمل فيه، وقد استفدت كثيراً من مهنتي كطبيب وشغفي كروائي، وعملي في بيئات مختلفة داخل السودان وخارجه، لأصنع عالمي الذي بات معروفاً. وحقيقة كان الأمر ولا يزال قاسياً، لأن كلتا الحرفتين شديدتا الصعوبة وتحتاجان إلى جهد، ولا يمكن التخلي عن الكتابة، ولا عن مهنة الطب لأنها السبيل الوحيد لكسب العيش، عموماً مضى الأمر بمشاقه وحلاوته، لأن في المشقة أيضاً بعض الجمال\”.
هندسة الكلمات
في إحدى ليالي الشتاء الماضي كسا ظهره عرق بارد كثيف وهو على عتبة خطوة مصيرية. ضغطة زر ويتم تعميده ككاتب بعد ثلاث وعشرين عاماً من احتراف الهندسة. راجع منشوره للمرة العاشرة، كان يتضمن غلاف روايته الأولى \”حدث في شنغن\” وسطرين. تفصله لحظات عن إعلان تحوله من نقيض إلى آخر. ضغط على \”شارك\” ثم جلس يراقب التعليقات. يحكي الكاتب محمد إسماعيل عن علاقته مع الكتابة قائلاً: \”ستة أعوام أتأرجح بين عقل يعمل بالهندسة وقلب معلق بالأدب، صراع تزكيه الحاجة إلى المال من ناحية والرغبة الملحة في الكتابة من الناحية الأخرى\”. لكن الصراع الداخلي انحاز للكلمات بعد أربعين عاماً من القراءة بدأت في عصر ما قبل الفضائيات حيث لا نديم في الليل إلا خير جليس. علمني جرجي زيدان التاريخ وحكى لي عبد الحميد جودة السحار قصص الأنبياء، عرفت الأدب السوفياتي من ترجمات غوغول وبوشكين، وقرأت لتوفيق الحكيم وعشقت عوالم نجيب محفوظ الفريدة، ولأني مؤمن بالدراسة قرأت عن الكتابة والتحقت بالورش المؤهلة لها حتى انتهيت من كتابة عملي الأول \”ما حدث في شنغن\” الذي تأخر نشره لأربع سنوات كنت انتهيت فيها من كتابة \”باب الزوار\”، الذي صدر قبل أشهر\”.
تبعات القرار
\”الأدب ليس خياراً قائماً على الفشل في المجالات العلمية. غالباً ما تدفعك حداثة عمرك للانزلاق في تحد لتحقيق أحلام رسمها الآخرون لك، ملقياً بحلمك الشخصي بعيداً عن مرمى بصرك\”. هكذا تصف الكاتبة مريم عبد العزيز هجرتها للهندسة لتمضي في مسار الكتابة، وتلاحق حلمها الأول الذي عاد وطرق بابها بعد ثلاثة أعوام من التخرج في كلية الهندسة، في لحظة تنوير لا تدري الباعث لها، عادت للكتابة من جديد، قصائد شعر بدائية تتناسب مع مرحلة الانقطاع الطويل. ثم توجهت بوصلة الكتابة في اتجاهها الصحيح وعادت إلى السرد. استغرقت هذه المرحلة خمس سنوات أخرى. صاحبت فيها الهندسة الكتابة ثم أصبحت الكتابة تنازع الهندسة.
وتضيف: \”حاولت خلالها بإخلاص أن أوازن بينهما، لكن مهنة الهندسة لا تقبل بشركاء فهي لا تكتفي أبداً بعدد الساعات المحددة في عقود العمل لكنها تمتص أيامك وطاقتك وأعصابك حتى الرمق الأخير، ولا تكتفي خاصة في بيئة شركات القطاع الخاص. وتحتاج الكتابة وقتاً للتأمل ولمراقبة الحياة والناس، وتحتاج الى السفر ومعاينة أماكن جديدة، وإلى القراءة. وقبل كل هذا رأس لا تنهكه طلبات الزبائن ومواعيد تسليم المشاريع وتوبيخ المدراء ومشكلات تظهر في اللحظات الأخيرة. كانت هذه حرب ساحاتها عقلي وروحي. وأسلحتها مجتمع يُقدس الألقاب ولا يستوعب أن يتخلى شخص عن لقب \”مهندس\” في سبيل تحقيق حلم قديم. وبالتأكيد التخلي عن الاستقرار المادي الذي توفره وظيفة مثل الهندسة. لم يكن القرار سهلاً أبداً لكنها كانت لحظة شجاعة أو تهور وأنني حين أنظر إليها في بعض الأيام التي يتملكني فيها الإحباط أراها لحظة انسحاب وضعف. في النهاية إنها خيارات فردية لا يمكن تطبيقها على الجميع وكل شخص ملزم بتحمّل تبعات قراراته\”.
عالم الكتابة والصيدلة
من أنا؟ ماذا أريد من هذا العالم؟ لماذا أنا هنا؟ هذه الأسئلة الملحة كانت محور تفكير الكاتبة الطبيبة شيرين سامي: \”طالما أجبتُ إجابات خاطئة\”. ترى أنها مع التخصص العلمي حققت حلم أسرتها. لكن قبل حلم الآخرين، كانت الكتابة حاضرة داخلها، لذا أصدرت عدة روايات منها \”حنة\” و \”الحجرات\”، تقول: \”الكتابة التي لم تخطر على بالي، إلا كصديقة قريبة وفية، تجيد سماعي وتساعدني على الإجابة عن أسئلتي. مع انشغالي في الدراسة ثم الزواج لم تعد صديقتي على المسافة نفسها، مما جعل الأسئلة داخلي تنمو وتظهر في نظرتي ورعشة يدي، حتى جاء اليوم، ذروة الحكاية، في معرض فني لزميلة وجدت جواباً على أحد أسئلتي. قلت لها: \”تخيلي… نسيت أني أحب الكتابة!\”.
وأضيف: \”عدت إلى الكتابة بكل أشكالها، عدت إلى مكاني الحقيقي، مساحتي الآمنة، على رغم خطورتها على حياتي وما تسببت لي فيه. إلا أنها الوحيدة التي تجاوبني مهما تكاثرت في داخلي الأسئلة. أصبحت الصيدلة مثل اليد التي تمسكني وتتشبث بي في الحياة المادية حتى لا أطير مثل بالون هيليوم في خيالاتي وعذاباتي وأسئلتي. أحتاج الصيدلة بقدر ما أحتاج الواقع ليجعلني قريبة من الناس، ليس فقط لأتلاحم معهم، لكن حتى أكتب عنهم. وما زلت في داخلي لا أتوقف عن التوق للطيران\”.
د.لنا عبد الرحمن
independentarabia