مظفر النوّاب في ذاكرة اريتريا

\"\" 

       أسدل الستار على حياة شاعر بعد سنوات من الرحيل و الترحال بين المنافي بسبب قصائده الثورية.

هو الشاعر الشعبي مظفر عبد المجيد النوّاب (1934-2022)، المولود في بغداد، و فيها ترعرع و درس و اتخذ من مواقفه وآرائه وانتمائه إلى اليسار و تجاربه الحياتية وميوله الثورية، منصة لإطلاق تجربته الشعرية، بجناحيها الفصيح والشعبي. تعرض للاعتقال و السجن بعد احتدام الخلاف السياسي بين الشيوعيّن و القوميّن، مما ترتب أن يكون طريداً في العواصم العربية بيروت، و دمشق، طرابلس الغرب، عدن ، اريتريا مروراً  بالخرطوم ، و مدن أوربية أخرى. أستقر في دمشق بعد اصابته بالشلل الرعاشي في عام 2005م. و أضطر للرحيل بعد فقدان  منزله بسبب الحرب، الى دولة الامارات العربية المتحدة ، حيث حل في ضيافة و رعاية امارة الشارقة. و توفي فيها ظهر الجمعة 20 مايو 2022م بمستشفى الجامعة. و نُقل جثمانه الى العراق حيث طواه الثرى في النجف.

كتب النواب المئات من القصائد الانشائية و المنبرية الصارخة ذات مفردات تخدش الحياء باسم الحرية للجماهير و الدفاع عن حقوق المهمشين. و يؤخذ عليه عدم اتخاذ موقف مضاد من الغزو الأمريكي للعراق  في 2003م. كانما أختار الوقوف عند مفترق الطرق:\”الوطن الآن على مفترق الطرقات/ وأقصد كل الوطن العربي/ فإما وطن واحد/ أو وطن أشلاء\”. و هي الصورة العامة لكل مراحل الثورة و التحولات السياسية قبل/بعد الاستقلال في الوطن العربي. و هو عاشها حزينا:\”مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق.. من تمضي السنين\”.

اريتريا واحدة من محطات المنافي التي عاش فيها، و نام على أرضها و التحف سماؤها بعد هروبه من العراق. و كانت أربعة أشهر ما بين عامي 1970-1971م. و تحدّث عنها في حوار منشور بموقع جدّلية Jadaliyya:\” أطول فترة كانت مع الإرتريين. ليس القصد حمل السلاح معهم. فهم لديهم من يقاتل ولا يشكون من نقص عددي. الهدف هو دراسة التجربة ومعرفة أبعادها والتقاطعات الدولية لكل تجربة.

و التعرف على الإشكاليات ومقارنتها مع الكفاح المسلح في جنوب العراق، مثلاً، أو الثورة الفلسطينية. بالإضافة إلى البعد السياسي والنضالي\”. و كان الأطفال حينها يكتبون بالحرف العربي. و يرسمون طفولتهم الممزقة، و رعاة الليل بانتظار ميلاد الحرية.

\” و رعاة الليل

يهزون فوانيس الفرح الوحشي لماعزة

تلد الآن

و مدرسة الأطفال على التل

وفوق السبورة حرف عربي

مخزن طلقات

أعطاني الأطفال رسوما/ لمراع وقرى وطفولات مزقها الأحباش

فأين سأعرضها وأنا لا املك غفوة عين

/والأطفال كثرن على قدمي

حررني السير المتواصل في الشمس السوداء

أعطاني السهل المفتوح غناء الثور

و كنت كأشجار الصمغ لهذا الفرح البحري\”.

ليس ذلك، بل منحته اريتريا الفرح و الغوص في جماليات الطبيعية على حد قوله:\”هناك بعد جمالي بالنسبة لي أيضاً.كنت أفرح جداً عند الذهاب إلى هذه المناطق. أولاً، تلتقي مع الطبيعة وجهاً لوجه. وتلتقي معها وأنت على حافة الخطر لأنك معرض للقصف في أي لحظة من قبل قوات هيلا سيلاسي مثلاً. كانت هناك دوريات تمر ومعك كلاشنكوف وعدد من الثوار. وجودك على حافة الخطر يجعل الجسم مثل جهاز رادار تختلف استقبالاته. دستيوفسكي يتحدث عن هذا بشكل جميل. يتعرض لحكم الإعدام ولكن قبل دقائق من تنفيذه جاء العفو فيتحدث عن حسه بالحياة في تلك اللحظة. وأنا عشتها في إريتريا لأن الخطر كان ممكناً في أي لحظة وهناك طائرات ودوريات. فتشعر بوجود حوار مع الأشجار والصخور و مع كل شيء. حوار حقيقي وليس مجازاً. تشعر بأحاسيس كل ما هو حولك\”.

 \”لسعتني النار

وسافرت إلى الغابات

ظبي ذبح الآن

وللنبع عصافير

نقطة ضوء حرقتني في الفخذ اليسرى

ملت../

فضخ الكون عصافير ملونة

صعدت على سلم زقزقة

فاهتز الشجر الموغر بالتمر الهندي\”.

 

و يرى فيها شكّلا من أشكّال الحس الصوفي:\”كل هذا عنده حس ويشكل نسيجاً حياتياً واحداً وأنت جزء منه. ليس هذا بالشيء القليل. إن تجربة من هذا النوع تعطيك الشمول الذي يكون عند الصوفية الكبار مثل ابن عربي والحلاج ورابعة. أنا أعتقد بأن ما لم يكتب عنهم هو أنهم بالتأكيد شعروا أنهم جزء من هذا النسيج الحي الكبير الذي هو الحياة،\”.

\” و فقدتك حين رجعت من الرؤيا،

كان لساني أصغر من ألف مبيض للسوسن،

والليمون.

وطيور السندس تجتاز الصمت

وينفش الريش الأخضر في ليل عيوني

فاجأني الصحو المتفجر

حاصرني فقر الألوان\”.

و ينحاز للثورة مهما تكالبت عليها الظروف حيث لا يتقوس ظهرها إلا يصبح قوسا:

\” و تصطف السفن السود على المرسى،

لا يتقوس ظهر الثورة إلا يصبح قوسا

أعرف بين جنودك عبد اللّه

وآدم..

وأعرف موسى يا بلد الثورة .. و الأشجار..\”.

و هذا الانحياز للثورة ، و ليس للقيادة اللاجديرة حسب التوصيف الذي أشار اليه في حوار منشور على موقع جدّلية:\” إن تمكن بعض القيادات غير الجديرة من قيادة العمل جاء بسبب الوضع المادي. هناك إسناد من دول أجنبية، أمريكا وغيرها، لسبب ما. و هذا يمكنهم من الحركة أكثر من آخرين لديهم تاريخ جيد ، ولكن ليست لديهم إمكانية. ثم القيادي النزيه والجيد ليس مستعداً لأن يساوم و«يمسح جوخ». أما الآخرون فمستعدون لأي شيء \”.  

كان شاهداً على حرب الأشقاء بسبب مفهوم القيادي اللا جدير منذ الانشقاق الى فصيلين:\”أذكر مرة كنت أزور إحدى حركات التحرر وفيها قيادات متعددة. كنت أريد أن أطلع على تجربة فصيل من فصائلهم\”. فكأنت الصدمة أن يجد كل شيء للبيع حتى القتال بلا معنى:

\” أنوح فإن الأخبار تجيء الآن

/بأنك تقتتلين بلا معنى

حوطت عليك ضلوع اللوعة

إن رياح قوادات تتجمع من كل الدني

وقيادات باعتك\”.

و من ثمّ انكسارات متوالية و خسارة الانسان في معركة تحرير مصوّع الأولى، و ابتلاع بحيرة سالينا الملحية العديد من الرفاق  بسبب خلافات الأشقاء، و تحول الموقف السوفيتي الى فتات الخبز:

\”يا للنار تلقي نورها السحري في وجه المعذبين

إنهم ينتزعون ذلك الروح العنيد في المرساة

حتى تستطيل العضلات في وجوههم

وينصتون للمحيط في قراره الرهيب

لقد دفنا نصف من نحبهم في جزر الملح

واقعينا على الشاطئ كالفقمة في صمت

وكانت سفن الأغراب تلقي بفتات الخبز\”.

كان مناصراً للقضية و الاختلاف مع االفئة التي سارت بالسفينة الى اسرائبل حين تم الاستقلال:\”حدث التغيير في هذا البلد، كان لصالح فئات أخرى ولم يحدث شيء. أنا أتحدث عن أرتريا وهو وضع غير جيد. جاء شخص لم يكن مرشحاً إطلاقاً و لديه علاقات مع إسرائيل أيضاً\”.

و من ثمّ أصبح الأمر  بالنسبة له لوثة في القلب:

\” و أنت بزاوية أخرى

وتمد يديك

تمدهما تخترق الساعات

وتخترق الليل

وجيوش السفن الأخرى

لوثت القلب \”.

يُذكر للنوّاب شهادته بشاعرية محمد محمود الشيخ(مدتي)،صاحب ديوان:\”نافذة لا تغري الشمس\”، المولود في مدينة\”حلحل\” 1955م. حين مشاركته في فعاليات اتحاد الأدباء و الكتّاب السودانيين 1978م. و كان محمد مدني ضمن مجموعة من الشبان الشعراء الواعدين وكلهم من السودان الا هو من أريتريا – قدمهم أحد الأدباء الى الشاعر(مظفر النوّاب) و طلب منه أن يستمع اليهم ويقول رأيه. وبالفعل أستمع اليهم واحدا واحدا. وقال فى الختام:\”كلكم شُعراء و أشعركم هذا\”الإريتري\”،–  وأشـار الى محمد مدنى \”.

\"\"

عاد النوّاب الى العراق في المركب العتيق، و اريتريا تفرز العودة في الخد الرمادي:

\” ثم تطلق العصافير إلى بلادها

ويرجع الأسرى الذين فحمتهم رحلة الليل

سوف يعود مركبي العتيق مثلهم

لكنني مدبق القميص بالدم البنفسجي

والصمغ الذي تفرزه العودة في الخد الرمادي لكل الذكريات\”.

عبدالجليل الشيخ