تجليات الرؤية الشعـرية

\"\"

يشكل التعريف اللغوي للفظة \”رؤية\” مدخلاً مهما لفهم مصطلح الرؤية الشعرية، فهي تعود إلى الجذر اللغوي \”رأي\” الذي يتفرع منه لفظتا \”رؤية\” بالتاء المربوطة، وتعني الإبصار المادي المحسوس في حالة اليقظة، والثانية لفظة \”رؤيا\” بألف المد. ودلالتها معنوية تتصل بالقلب، وما يراه الإنسان في منامه، وجمعها \”رؤى\” أي أحلام، ويرى ابن منظور أن الرؤيا يمكن أن تكون أيضًا في اليقظة (1)

أما عن علاقة الرؤية بالشعر، فهي علاقة وثيقة، بل يمكن الجزم بأن الشعر رؤية، تنبع من رؤية الشاعر للواقع المحسوس التي تنعكس على الرؤيا الخاصة به، فالرؤية نظرة حسية لما هو موجود، والرؤيا متجاوزة لما هو موجود إلى الخفي مكتشف العلائق لبناء عالم جديد والفصل بين الرؤية والرؤيا مستحيل(2)، فمن المحسوس يتكون النفسي والفكري، والتصورات الفكرية والنفسية تنعكس على الرؤية الحسية، فالعلاقة بينهما ارتباطية وانعكاسية على الكون، والطبيعة، والحياة، والقصيدة، والإنسان، وعلى لغة الشعر وإيقاعه وصوره ورموزه وتراكيبه.

ورؤية الشاعر لا تنحصر في البعد السياسي أو الاجتماعي أو الفلسفي، أو الدلالة الفكرية، فهي ستكون أقرب إلى التنظير منها إلى الرؤية الشعرية، بكل ما تعنيه من شفافية وصدق وشاعرية وجماليات. فـــ\”رؤية الشاعر تنحت خصائصها من جماع التجربة الإنسانية التي يعيشها الشاعر في عالمنا المعاصر\”(3)، والرؤيا بذلك تكون مرادفة للبصيرة الشعرية، أما الرؤية فهي تترادف مع البصر(4( فالبصيرة أمر قلبي وتعني: فطنة القلب، التي هي ناتجة عن التبصر، من خلال التأمل والتعرف والتفهم(5)، والتي تؤدي في النهاية إلى العلم والفهم المعمق. وتلتقي مع الرؤية البصرية في أن العين مفتاح الشاعر للنظر إلى الموجودات، وتأملها حسيًّا، ومن ثم يختزنها في أعماقه، ويصهرها في ذاته، لتتجلى أخيلة في شعره.

وهنا يختلف الشاعر عن المنظّر والمفكر والفيلسوف والباحث، فالشاعر يكوّن رؤاه من خلال معايشته الفكرية والنفسية والحياتية والوجودية والتفاعلية مع الأفكار والطبيعة والبشر وسائر الكائنات والموجودات، وكل كان تفاعله صادقًا، وفكره عميقًا، وإحساسه شفافًا؛ جاءت رؤاه جديدة مبتكرة، تنعكس تميزًا في أشعاره.

فرؤية الشاعر في جوهرها رؤية شاملة مكتشفة للوجود الذي تصفه، وعاكسة للنسيج الحضاري المعقد، كما أن المواقف والأفكار، التي يتبناها صاحبها تبقى فارغة بلا هوية ما لم تجسد التجربة الإنسانية، فرؤية الشاعر هي أداته الوحيدة التي تعيد صياغة العالم على نحو جديد(6)

أما انعكاس الرؤية على التجربة الشعرية فيتجلى من خلال: \”تضافر مجموعة من التقنيات التعبيرية المتصلة ببعض المستويات اللغوية خاصة النحوية، وطرق الترميز الشعري المعتمد على القناع والأمثولة الكلية وأنواع الصور وأنساق تشكيلاتها، تتضافر كل تلك العوامل لتكوين منظور متماسك في النص، مما يجعل الرؤيا هي العنصر المهيمن على جميع إجراءاتها التعبيرية والموجهة لاستراتيجياتها الدلالية\”(7) فلا قيمة للرؤيا لدى الشاعر إن لم تنعكس إبداعًا على إنتاجه الشعري، وكم من شعراء امتلكوا رؤى عميقة، ولكن عجزت مقدرتهم الشعرية ومهاراتهم عن تحقيقها، فمالوا إلى النقد والتنظير على حساب الإبداع والشعرية.

والعكس صحيح وقائم، فهناك من الشعراء، من صاغوا رؤاهم في أشعارهم فنبضت بكل ما هو جديد، وكانوا مشاعل وضاءة قادوا بقية الشعراء إلى التغيير، ومع ذلك لم يصوغوا تنظيرًا، وإنما اكتفوا بالإبداع الذي هو خير برهان على صدق تجربتهم. فالإبداع هو المستهدف في النهاية من أي رؤى جديدة يرومها الشاعر.

وكما أشار د. صلاح فضل في مفهومه السابق، فإن الرؤيا الشعرية تنعكس على البنية النصية الجمالية: تقنيات التعبير، الصور، الرموز، أنساق التشكيل. وكلها تصبّ في بنية النص الشعري وأسلوبه. وهذا صحيح، فالشعر في النهاية أساسه اللغة، واللغة الشعرية لا تعرف خطابية ولا تقريرية وإنما قوامها الخيال والتركيب واللفظ الموحي والبنية العضوية المتماسكة. فلا معنى لرؤيا شعرية صاغها شاعرها في تعبيرات مباشرة، حملت من الفلسفة ومصطلحاتها أضعاف ما حملت من الجمالية.

وللرؤيا الشعرية علاقة مباشرة مع الموضوعات التي يختارها الشاعر في أعماله، فالرؤيا عامة، أما الموضوع فخاص، وهو يعني: وحدة من وحدات المعنى في النص، وتبدو في وحدات: حسية أو علائقية أو زمنية مشهود بخصوصياتها عند الكاتب. فهو المادة التي يبني عليها الكاتب إبداعه، وتبدو واضحة في البناء اللغوي والمفردات في النص، مما يستلزم آليات منهجية بنيوية وأسلوبية وسيميوطيقية لتحليلها(8)، فنلاحظ موضوعًا أو موضوعات مهيمنة على عالم الشاعر، ويتكرر في نصوصه بشكل لافت، ويوجد معه قاموسًا لغويًا، يبدو في كلمات مفتاحية دالة ومهيمنة، فالكلمة متى ظهرت في ملفوظات الشاعر النصية وتكررت، كان لها وزن دلالي ثقيل، يتناسب طرديًا مع النصوص المعنية بهذا الموضوع والتي تكون نبراسًا لفهم العالم الشعري والموضوعاتي لدى الشاعر(9) فتحليل أي نص ينطلق من اللغة، وينتهي بها، وإن طاف وحلّق الناقد في أجواء النص الفكرية والوجدانية، فإن المفردات (وتشمل البنية اللغوية كلها( هي سبيل الناقد، للوصول إلى الرؤيا الشعرية للشاعر، نقول ذلك رفضا لما يقوم به بعض النقاد الانطباعيين، الذين يطلقون العنان لأقلامهم، تحمّل النص ما لا يحتمل، وما لا يمكن الاستدلال على وجوده في النص، وشعار هؤلاء النقاد في ذلك أننا نسبح مع النص ونعايشه، وفي الحقيقة هم يسبحون بعيدًا عن النص ولغته، ويعايشون ما في عقولهم، من قناعات يسقطونها على النصوص أو يحومون على النص، ويعدّون ما يكتبونه من نقد إبداعًا موازيًا، فيدبجون مقالات مستفيضة، تخلع على مقتطفات النص من مفاهيم وأفكار ما ليس فيه، وهي طريقة قد ترفع شعراء وتحط من آخرين دون منهجية نقدية تستند إلى معطيات نصية وشعرية وجمالية، وإنما تعتمد على صيغ إنشائية وفقرات فضفاضة في الشرح والإشادة.

إذن، لا يمكن الاعتداد بأن الرؤيا الشعرية هي تصور فكري وشعوري فقط، بل هي ذات أجنحة عديدة: أولها يتصل بموقف الشاعر من الوجود، والذي يتأسس على ثقافته وفلسفة وأفكاره، وهو موقف ليس ثابتًا، وإنما ينمو ويتعمق مع تجربته، ومع الروافد المغذية لفكره التي يقرأ بها الكون والحياة والوجود. وثانيها: موقفه من البشر أنفسهم، الناتج من تصوره الفلسفي، وتفاعله المستمر مع الناس أفرادا أو جماعات في معيشتهم، وفي تقلب أحوالهم وهمومهم، وأفراحهم وأتراحهم، حبهم وعشقهم وكرههم، بالإضافة إلى مشكلات مجتمعه ذاته.

ثالثها: موقفه الجمالي، والمنعكس على نصوصه الشعرية على مستوى الصور والأخيلة والعناوين والرموز، ومختلف الإحالات والإشارات التي نجدها في أشعاره، وكما سبق وأشرنا؛ أن ليس كل شاعر صاحب رؤية متميزة بقادر على إنتاج نص بديع يعبر عنها، فالموهبة الشعرية الفذة هي القادرة على صياغة الرؤية الشعرية.

فالشعراء يتفاوتون في رؤاهم الشعرية، فهناك التقليديون الذين يبدعون مثلما أبدع الأوائل السابقون، على نحو ما نجد في الشعر العمودي بصياغته التقليدية، ولا يزال بيننا شعراء يصوغون شعرهم وفق أغراض الشعر العربي القديم، غير عابئين بالتطور الشعري الهائل الذي حدث في القرون الأخيرة، بل في مسيرة الشعر العربي القديم نفسه. وهناك شعراء موهوبون بالفعل، ولكنهم تقاعسوا عن تحصيل أسباب التميز على المستوى الرؤيا الشعرية، فلم تتغذَّ ذواتهم بروافد الفكر والفلسفة والثقافة والجماليات والتجارب الشعرية العالمية والعربية المتميزة، فظلوا دون تطور، غير واعين بأن التميز يتأتى من الإضافة الإبداعية المتميزة، وكثير من هؤلاء تصيبهم الأنا النرجسية العالية في بداية طريقهم فتعوقهم عن التطور.

وهناك الشعراء المقلدون، الذين يمتاحون من الشعراء العمالقة المبرزون، وكما يقال على جوانب المواهب الكبرى هناك متسلقون وطفيليون.

وأخيرًا، هناك الشعراء الأفذاذ ذوو المواهب الكبرى، والرؤى الخلاقة، والبنى النصية المتفردة وهؤلاء – على قلتهم – علامات متميزة في مسيرة الإبداع الإنساني، الكثير يمتاح منهم، ويقتدي بإبداعهم، وعلى دروبهم يسير.

وختامًا، في تصورنا أن التركيز على مفهوم الرؤية الشعرية في إبداعات الشاعر وتحليلها؛ يفض مغاليق كثير من الظواهر التي صاحبت الحداثة الشعرية العربية، وسببت جدلا كبيرا، لأن موقف الشاعر المجدد المبدع ورؤاه يختلف جذريا عن موقف الشاعر التقليدي المكرر، وهو موقف يتصل بالوجود والموجودات، والكون والكائنات، والإنسان وقضاياه. فعلى قدر وعي الشاعر الحداثي بهذا الموقف، وسعيه إلى استكناه رؤيا مغايرة، نابعة من ذات شاعرة مختلفة، تؤمن بالجديد، وتطمح إلى إضافة إبداعية، وتسعى إلى جماليات مفارقة.

الهوامش:

1  -لسان العرب، ابن منظور، تحقيق عبد الله علي الكبير وآخرون، دار المعارف، القاهرة، ط3، د ت، ج3، ص1540، ص979.

2  -مفهوم الشعر عند رواد الشعر الحر، فاتح علاق، دار التنوير، الجزائر، ط1، 2010م، ص141.

3 -شعرنا الحديث إلى أين؟، د. غالي شكري، دار المعارف، القاهرة، د ط، 1986م، ص76.

4  -السابق، ص74.

5  -البصيرة والفراسة، على موقع منارة الإسلام، http://www.islambeacon.com/ ومنها وقوله تعالى {أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (سورة يوسف/ 108)

6  -شعرنا الحديث إلى أين؟، ص114.

7  -أساليب الشعرية المعاصرة، د. صلاح فضل، دار الآداب، بيروت، ط1، 1995م، ص111

8  -الرؤيا الشعرية والتأويل الموضوعاتي: الهاجس الإفريقي في شعر محمد الفيتوري نموذجًا، د. يوسف وغليسي، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو – سبتمبر 2003م، ص177 – 179.

9 -السابق، ص180.

د. مصطفى عطية جمعة