من أين قد تبدأ الكتابة عن القاهرة؟ من قول الله عن أرض مصر في الآية الكريمة”ادخلوها آمنين”، أم من جامعها العتيق الذى أسسه عمرو بن العاص حين أقام فى مدينة الفسطاط، أم من نيلها الميمون ومقياسه فى جزيرة الروضة، عما تكون الكتابة؟ عن قاهرة المعز وأول عمل فنى معمارى أقامه الفاطميون “الأزهر الشريف”، وأحيائها البديعة فى قدمها؟ أم عن القاهرة الحديثة بشوراعها العريضة وطرقاتها الممتدة باتساع لتقرب المسافات. إنها مدينة غير مدركة الأبعاد، سائرة فى موكب الزمن دون أن تتخلف رغم لهاثها عن ركب الحضارة، ماضية بثقة، تخبئ فى داخلها ألف مدينة ومدينة، فلا عجب أن كل ما تبحث عنه من الممكن أن تجده فى القاهرة.
وصلت إلى القاهرة فى المرة الأولى شتاء عام ٢٠٠١، للمشاركة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، ثم انتقلت للإقامة بها بشكل دائم فى عام ٢٠٠٢.أدهشنى اتساع المدينة ورحابتها، كنت أقارنها فى ذهنى بمدينة بيروت الصغيرة التى من الممكن الانتقال فى أرجائها وبين الساحل والجبل والوادى فى غضون ساعة من الزمن. بينما فى القاهرة تتشكل علاقة مختلفة مع الوقت والزحام والشوارع المكتظة بالمارة والعابرين بالسواح والباعة الجائلين، بالطلبة والمغتربين، بالموظفين وربات البيوت اللواتى يتعجلن الرجوع لإعداد طعام الغداء، كل ما فى القاهرة يحفز على التأمل بها، إنها لوحة ملهمة تشتبك ألوانها وتتجاور فى اتساق مثير يحير المخيلة ويدفع للذهن عشرات الأسئلة،عن الأحياء والأماكن التى كتب عنها العظماء والمبدعون، وخلدها الرسامون فى لوحاتهم، أردت الذهاب إلى مقهى الفيشاوى، ورؤية حى الجمالية، الحسين والسيدة زينب، أردت تتبع خطوات نجيب محفوظ فى أماكنه، بحثًا عن وجوه تختفى خلف المشربيات، تسترق النظر للعابرين.
فى القاهرة، تقودك الخطى للبحث عن أماكنك التى تتشكل علاقتك بها بمرور الوقت،ظللت فى الأعوام الأولى أتردد على شارع محمد محمود فى وسط البلد، حيث مقر الجامعة الأمريكية، كنت أدرس الترجمة، وفى المساء أجلس لأرتاح قليلًا فى كافيه ومطعم “بون أبيتى”، الذى أزيل الآن، وحل مكانه “أولدش”، لاحقًا كتبت فى مجموعتى القصصية “صندوق كرتونى يشبه الحياة” عن هذه الشوارع، لقدأحببتُ المشى فى أحياء وسط البلد من باب اللوق إلى شارع قصر النيل، وصولًا إلى “الأوبرا”، التى كنتُ أعتبرها من أكثر الأماكن جاذبية، سواء من حيث رحابة الأفق والبناء الفخم للمكان إلى جانب التماثيل البديعة التى تنتشر فى ساحاتها، ثم مسرحها المكشوف وما يقدمه من عروض كنتُ أحرص على اختيار ما يناسب ذائقتى منها.
فى عام ٢٠٠٤، كتبت مجموعتى القصصية الثانية “الموتى لا يكذبون”، وظهرت مدينة القاهرة ضمن أكثر من قصة فيها، أذكر منها قصة “السابعة إلا ربع مساء”، ثم فى عام ٢٠٠٩، بدأت فى كتابة روايتى “ثلج القاهرة”، التى دار جزء كبير من أحداثها فى منطقة “المنيل” حيث تعيش البطلة. كنت خلال الكتابة، أقود سيارتى كل يوم إلى جوار قصر المانسترلى، أقف فى ردهات القصر المطل على النيل، ثم أمشى عند الكوبرى الخشبىا لذى يتوسط النهر، لقد ظللتُ مفتونة بهذا المكان طوال كتابتى للرواية، أعبر الشارع أمر من أمام سينما فاتن حمامة، ثم أدلف للشارع المزدحم المطل على النيل أيضًا، يتوسطه حلوانى “لارين”، كنت أشعر أن المكان يسكن بى، وأنى عرفت هذه الشوارع منذ زمن عتيق تضيع الفواصل بين حدوده، بين القاهرة فى العشرينات مع بطلتى “نورجهان” والرموز القديمة المتراجعة فى النسيان والحاضرة فى القاهرة الحديثة مع شخصية “بشرى” رسامة الجرافيك الشابة التى تسكن فى المنيل وشاهدت فى منامها الثلج يغطى شوارع القاهرة.
أما الزمالك، هذا الحي الراقى والهادئ، فقد استدعى فى داخلى مدينة بيروت فى تعرج الشوارع الصغيرة وانعطافها، فى الأبنية المنخفضة وأناقتها. مازال هذا الحى من أحد أماكنى المفضلة فى القاهرة، كلما أردت التجوال من غير هدى أذهب إلى هناك ليس للمرور فقط على مكتبة الديوان لشراء الكتب، بل كى أمشى قرب النيل ثم أنعطف بلا دليل فى الشوارع التى لا أعرفها، حيث متعة التوهان التى تؤدى إلى اكتشافات صغيرة.
ماذا منحتني القاهرة؟ ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، كانت هذه المدينة سخية معى إذ أعطتنى بيتًا وأسرة وكتابة وأصدقاء مخلصين وجيرانًا ودودين؛القاهرة يتعذر إدراكها تمامًا، حق الإدراك، هذا محال..لكن الممكن هو حبها، وتلقى الحب منها.
د. لنا عبد الرحمن
مجلة ” الثقافة الجديدة”