من جزيرة صقلية، يأتي اسم ليوناردو شاشا (1921-1989)، كي يتمكن القارئ العربي من اكتشاف هذا الروائي الإيطالي المهم، بعد صدور ثلاث روايات له مترجمة للمرة الأولى إلى العربية، عن دار المتوسط، عناوينها \”لكل ما له\”، و\”حكاية بسيطة\”، و\”نهار البومة\”. والروايات الثلاث يضاف إليها عنوان فرعي في الترجمة العربية هو \”حكايات المافيا\” كما يرد في توضيح يذكره الناشر. قام بالترجمة الدقيقة والحيوية الكاتب والناقد العراقي عرفان رشيد، الذي يقيم في إيطاليا منذ عام 1978، وله عدة إسهامات في الترجمة عن الإيطالية، وقد وضع مقدمة تعريفية مهمة وشاملة عن الكاتب بعنوان \”من هو ليوناردو شاشا؟\”، ضمنها سيرة حياته وأهم مؤلفاته، والأحداث الحياتية المفرقية التي شكلت مساره الفكري والمهني والإبداعي.
تبدو روايات شاشا ذات خصوصية ثقافية عميقة الأثر، إذ يهيمن الواقع الصقلي على كتابته بقوة وأصالة في التناول، مكنته في غضون سنوات قليلة بعد صدور أول أعماله \”أبرشيات ريغالپيترا\”، من إثبات نفسه كواحد من الكتاب المؤثرين في إيطاليا.
رواياته تنتمي إلى نوع الحكاية البوليسية الناقدة للمجتمع والمقترنة بمكائد وملابسات متناقضة، تطفح نقداً وسخرية من الواقع \”الصقلي\”، الذي تتحكم فيه قوى متصارعة، حيث سلطة الحكومات البيروقراطية وسيطرة المافيا المتدخلة في العلاقة بين المواطن والدولة، وبين هذين الطرفين تكون حياة الأبرياء على المحك.
وعلى الرغم من انتماء كتابة شاشا إلى \”الأدب البوليسي\” فإنه تأثر بكتابات آليساندرو مانزوني، وفيكتور هوغو، وجاكومو كازانوفا، ودوني ديدرو، إذ ينشغل في تأمل الموقف الوجودي والأخلاقي لأبطاله عبر آرائهم في الحدث المحوري الذي يقع في الرواية. ينتصر شاشا للضعفاء والفقراء والمنسحقين من خلال حكاياته التي يضمنها رؤيته للحياة، وفي اختيار أبطال ينتمون إلى الطبقة العادية من الناس، مثل الصيدلي، وعريف الشرطة، وصاحب الدكان، وقاطع التذاكر في القطار، وموزع البريد، وغيرهم. كأن يقول في وصف إحدى الشخصيات، \”كان واثقاً من الحميمية والسذاجة التي يتسم بهما الصيدلي\”، أو أن يسخر من ركاب القطار الذين يشاهدون جريمة قتل ويتجاهلونها كأنهم عميان، في كونهم يتأملون في اللحظة نفسها روعة بناء الكنيسة.
تبدو أسرار السيرة الذاتية موجودة في روايات شاشا، الذي ينتمي إلى عائلة فيها مزيج من الحرفيين والفلاحين، لذا شعر دائماً أنه أقرب إلى عمال المناجم أكثر من كونه برجوازياً على الرغم من ثقافته، وذيوع صيته في كتابة الشعر واليوميات والمقالة الأدبية والسياسية. إنه من الجيل الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وكان له موقف مضاد من رؤية موسوليني للحرب، الذي يرسل الشباب ليلاقوا حتفهم في مواجهة نيرانها، وكتب عن هذا الأمر قصة \”ساعات إسبانيا\”، منتقداً مصائر الشبان المجبرين على الذهاب إلى الحرب، ثم عودتهم معطوبي الأطراف وعاطلين من العمل.
ظل شاشا مرتبطاً ببلدته، التي تمثل بالنسبة إليه ملخصاً عن صقلية كلها، وهذا نجده في رواياته عبر استحضار الأجواء الخاصة لمقاطعة صقلية، هذا العالم المنغلق على نفسه، الذي يتميز بالطبقية، وبالانفعالات العاطفية الشديدة أيضاً، وسيطرة لعبة القوة والاستغلال، في إطار عائلات متداخلة تتزاوج في ما بينها، حفاظاً على السطوة والنفوذ. لم يدفعه إدراكه لكل هذا ولا تحقيقه شهرة أدبية في الوسط الثقافي الإيطالي إلى مغادرة صقلية، بقي متمسكاً بالعيش في بلدته الأم والحديث عنها في حواراته وكتابته. لقب شاشا خلال حياته بـ\”ضمير إيطاليا\” بسبب مراقبته بدقة المجتمع الإيطالي، ومحاولته الشجاعة والدائمة انتقاد السياسة وتأثير المافيا. فهو في معظم كتاباته يبدأها بذكر كلمة العدالة، أو الأبرياء، كأن يختار مثلاً افتتاح روايته \”حكاية بسيطة\” بعبارة فريدريتش دورنمات، القائلة \”مرة أخرى أريد الغوص بأناة لأبحث في الإمكانات التي ما تزال قائمة أمام العدالة\”.
يرى نقاد شاشا أن من غير الدقيق تماماً أن نرى فيه كاتباً إقليمياً مرتبطاً بشكل أو بآخر باستحضار الفولكلور المحلي والأصيل لبلدته، إذ ينتمي هذا الكاتب إلى تراث أدبي عريق، لكنه يكتب عن صقلية كي يظهر ما تعنيه وتمثله له بعمق. وقد وصفه الناقد والأكاديمي الإيطالي ألبيرتو أسور روزا، قائلاً، \”لقد شكل شاشا مرحلة مهمة وكاشفة في تاريخ الأدب الإيطالي، بعد اختفاء بازوليني وإيتالو كالفينو، فإن رحيله يغلق مرحلة من مراحل الأدب الإيطالي في القرن العشرين\”.
\”لكل ما له\” عنوان إحدى رواياته المترجمة، ويفسر المترجم عرفان رشيد معنى العبارة في الصفحة الأولى بأنها تعبير باللغة اللاتينية يعني أن كل كائن سينال ما يستحق، أو أن لكل قدره. استحضرت العبارة عندي عنوان كتاب جلال الدين الرومي \” فيه ما فيه\”، وإن كان ثمة تناص مخبوء في المعنى الصوفي عند الرومي، والبوليسي عند شاشا، فإنه في كليهما يتعلق بالمصائر التي يواجهها الإنسان في غمرة ارتباك صراعه مع الواقع الضاغط.
تبدأ الرواية، التي تدور أحداثها في إحدى القرى مع وصول رسالة مجهولة المصدر إلى صيدلي البلدة \”مانو\”، وهو رجل طيب القلب يبيع الدواء بالدين لمن يحتاج إليه، لا ينشغل بالسياسة وليس له عداوات أو مشكلات مع أحد، لكن الرسالة تتضمن تهديداً واضحاً له. يقول، \”ستموت بسبب ما اقترفت يداك\”، فظن أنها مزحة بغرض إبعاده من المشاركة في رحلة الصيد، لكن الجريمة تقع فعلاً ويتم قتل الصيدلي مانو، والدكتور رشو في الغابة بعد يوم طويل أمضياه معاً في الصيد. لنقرأ \”كانت كلاب الصيدلي التسعة، وكلبا الدكتور في عداد المفقودين، إلا أنها عادت إلى البلدة بمفردها في حدود التاسعة مساء… وهي تعدو كئيبة متراصة، وكانت تنبح بالبكاء، وبما أن أهل البلدة شاهدوا الكلاب، واستمعوا إلى نباحها، فقد انتابتهم قشعريرة هاجس مخيف. وبالتراص والنواح ذاتيهما توجهت الكلاب بسرعة الرصاص إلى المخزن الذي كان الصيدلي حوله إلى حظيرة لها، وتجمعت أمام الباب المغلق، وضاعفت من نباحها النائح، كما لو أنها تعلم من بقي في البلدة عن المأساة التي وقعت، لكن حتى لو امتلكت قدرة النطق، كانت ستخرس عن إيراد أي دليل عن هوية القاتل\”.
يسترسل شاشا في متابعة ردود الفعل على الجريمة لدى الأهالي، ثم محاولات الكشف عن الجاني، التي تصب جميعها في تعثر إثبات الفاعل، بيد أن الكاتب في رواياته عن المافيا يدرك جيداً أن المغزى ليس العثور على من قام بإطلاق الرصاص، بقدر الجهر عالياً بهوية الفاعل الحقيقي المحرض على الجريمة والمتسبب بها.
إلى جانب حكاية الجريمة، فإن شاشا يضمن نصه تفاصيل عن العادات والتقاليد الصقلية، كأن يصف يوم الثامن من سبتمبر (أيلول) وكيف يقام في البلدة احتفال \”مريم الطفلة\”، حيث يدور في الأزقة موكب يحمل فيه تمثال طفلة صغيرة ملفوفة بملاءات مطرزة بالذهب واللآلئ، وتقام ألعاب نارية، وتدور في دروب البلدة فرقة موسيقية.
حكاية بسيطة
لا تبدو رواية \”حكاية بسيطة\” وهي قصة أقرب إلى \”النوفيلا (50 صفحة)، بسيطة حقاً، بل معقدة للغاية. يبدأ كل شيء في ريف صقلية عشية عيد القديس يوسف، يتلقى عريف الشرطة اتصالاً من شخص يدعى \”جورجو روتشيلا\” يقول فيه إنه وجد شيئاً ما في منزله ويود أن يريه للشرطة. تتسارع الأحداث انطلاقاً من لحظة الاتصال، بينما يكون رد فعل الضابط بالقول، \”لا، أنا واثق أن الأمر لا يعدو كونه مزحة، غداً… ربما، إذا توفر لديك الوقت، وأحسست بالرغبة، اذهب، وألق نظرة، وبقدر ما يتعلق الأمر بي أنا، ومهما يحدث لا تبحثوا عني يوم غد، أنا ذاهب للاحتفال بعيد القديس يوسف\”.
يصل العريف إلى العنوان، ويجد جثة رجل مقتول بمسدس وضع في يده، هل هذه جريمة قتل متنكرة في صورة انتحار؟ بخاصة أن الأدلة الموجودة سطحية، لكنها تلقي بظلالها على قصة تخفي وراءها حدثاً آخر. يحوم الظل القمعي للمافيا فوق هذه الأحداث الصقلية المثيرة، ومع ذلك وللمفارقة لم يجبر المؤلف أبداً على استخدام إحدى هاتين الكلمتين \”المافيا، المخدرات\”. إنها قصة تود أن تطلق النار على أهداف أصبحت مألوفة في كتابة شاشا، لكنه ينتقد ما يحدث بطريقة مرحة متخذاً من السخرية وسيلة ناجعة لإيصال أفكاره.
اعتبر شاشا أن هناك ثلاثة محاور عملت على خنق المجتمع الصقلي في الستينيات، وهي: المافيا والبرجوازية والكنيسة، وبعد مرور كل هذه السنوات، لم تفقد رؤية شاشا أياً من أهميتها. في سنوات الخمسينيات، تم إنكار وجود سلطة المافيا من قبل الحكومة، لذا أصدر شاشا روايته \”نهار البومة\” التي كان لها تأثير كبير في إيطاليا. ووصف شاشا عمله هذا بمقدمة يقول فيها، \”لقد قرأ كثير من الناس هذا الكتاب. ربما يكون كتابي الأكثر قراءة، حاولت من خلاله أن أفهم ما الذي يجعل من شخص ما مافياوياً، هذا هو المعنى الذي أردته من كتابي. المافيا كانت وما تزال (منظومة) قائمة في صقلية، تحرك المصالح الاقتصادية للطبقة التي يمكن وصفها بالبرجوازية، ولا تظهر هذه المنظومة أو تنمو إلا في ظل الفراغ الذي تتركه الدولة، والأدهى من ذلك كله، عندما تتمكن المافيا من التسلل إلى داخل منظومة الدولة نفسها. وليس (نهار البومة) إلا نموذجاً واحداً لمحاولات تعريف المافيا\”.
تتضمن الحبكة كل مقومات الرواية البوليسية: اغتيال، وقاتل، ومحقق يحاول حل القضية، لكنها قبل كل شيء تتضمن إدانة مباشرة أيضاً لسطوة المافيا. يستنكر الكاتب العنف المنفذ على كل من لا يحترم قواعد المافيا، ومحاولاتها ترهيب أي شاهد، إلى جانب تواطؤ التنظيم مع بعض السياسيين. يفتتح النص بجريمة قتل تقع في القطار، لنقرأ، \”سمع هدير إطلاقتين، شقتا هدوء الفجر. الرجل ذو البزة الغامقة اللون، والذي كان على وشك أن يضع قدمه على سلم الحافلة، بقي معلقاً في الهواء لوهلة، سقطت المحفظة من تحت إبطه بينما كان هو يتهاوى ببطء على الأرض… حدق قاطع التذاكر في كل تلك الوجوه التي بدت وجوه عميان. قال: لقد قتلوه، خلع قبعته، ومرر أصابعه بين خصلات شعره، لعن مجدداً. وصل رجال الدرك، وكان الرقيب أول قاتم السحنة بسبب لحيته غير الحليقة، واستيقاظه السريع المفاجئ من النوم\”. تخلو لغة شاشا من الزخرفة والوصف المطول والتحليلات الذهنية والنفسية، ويستعيض عن هذا بنص مشحون بالأحداث والحوارات التي تتشكل على هيئة تحقيقات بوليسية، أو حوارات بين رجلين من الشرطة، إلى جانب ملاحظات الناس العاديين على ما يحدث. هذه اللغة البسيطة والمشوقة مكنت كتبه من الانتشار بكثافة في إيطاليا، وتحقيق المعادلة الصعبة في الدمج بين الكتابة الجماهيرية والكتابة الأدبية الرفيعة المستوى.
كتاب الوداع
لعل من المهم أيضاً الحديث عن كتابه \”الفارس والموت\”، الذي يسرد فيه تجربته مع المرض، وتأملاته في اقتراب الموت من أيامه. ففي عام 1988 اكتشف الأطباء أنه يعاني ورماً سرطانياً نادراً في النخاع الشوكي، مما كان يجبره على علاجات طويلة ومؤلمة، لذا جاءت نصوص الكتاب مفعمة بالمشاعر العميقة الممتزجة مع رؤاه حول المجتمع والسياسة والأدب، ومستقبل إيطاليا.
والجدير ذكره أن شاشا له عديد من الإصدارات التي لم تترجم بعد إلى العربية، منها رواية \”أسود على أسود\” و\”كتاب مصر\” وهي عبارة عن رواية تاريخية تدور أحداثها في باليرمو في القرن السابع عشر. وكتاب \”قضية مورو\” وهو كتاب تحقيقي حلل فيه رسائل آلدو مورو المختطف على يد إرهابيي منظمة \”الألوية الحمراء\”، التي كان يبعثها إلى عائلته وأصدقائه. ووضع كتاباً تحقيقياً آخر بعنوان \”اختفاء مايورانا\” عن اختفاء العالم الفيزيائي الإيطالي إيتوري مايورانا، كما له عدة إسهامات في المسرح منها مسرحية \”المافيويون\”.
إنها المرة الأولى التي يتعرف فيها القراء العرب وباللغة العربية إلى هذا الكاتب الإيطالي الكبير، وفي ترجمة جميلة ومتقنة تمكن الكاتب عرفان رشيد من صياغتها بدقة وأمانة.
د.لنا عبد الرحمن
independentarabia