من يقرأ ( العهد القديم) سيقشعر بدنه مما فيه من استباحة لدم بني البشر، ولما يمتلكون، ولما يشيدون من أبنية، تحديدا في فلسطين، وسيذهل من ادعاء سفر الخروج بأنه كتاب ديني، وفيه كل هذه الوحشية، والتنكيل بفخر ومباهاة بالوحشية وبالسرقة، بل بالسطو على ممتلكات ناس آمنين في بيوت بنوها لتحميهم من تقلبات الطقس، ومن هجمات الوحوش، وكي تصون استقلاليتهم كأسر دشنت بدايات الحضارة البشرية فكانت الأسرة المستقلة في بيت هي نواتها وبدايتها..وهو ما حققوه في أريحا، وما زال ماثلاً في بيوتها القديمة التي ظهرت من تحت الركام، وكانت مدفونة على امتداد ألوف السنين وكشف عنها أثاريون بعلمهم وجهودهم فباحت الآرض بحقائقها التي لا يمكن دحضها وتزويرها وانتحالها.
في تلة عين السلطان – أريحا- ما زالت معالم البيوت بارزة، ولقد عشنا جيرانا لتلك البيوت التي تبرهن على أن هذا المكان، هو أول مكان عرف استقرار التجمعات البشريّة الأولى الزراعية في التاريخ البشري.
هذا المكان، أريحا، وهو مكان كنعاني، كانت ربّة ناسه: عناة..وهي ربة الزراعة والخصب، والربة الخطّابة، ربة الزواج، والربة التي تحمل في يدها حربة تذود بها عن مواطنيها وتحميهم من كل الشرور.
أنا عشت على مقربة من تلة السلطان والتي تشرف على نبع عين السلطان التي تتدفق مياهه باستمرار، في مخيم النويعمة، أما سكان مخيم عين السلطان فكانوا جيرانا ملاصقين للتلة التي هي أريحا القديمة، مدينة القمر، كما سّمى الكنعانيون مدينتهم، وهم كانوا أبناء الطبيعة، وتجمع كتب ودراسات كثيرة على إنهم عاشوا قوما مسالمين.
أولئك القوم المسالمون ابتلوا بمن يدّعي كتابهم (المقدّس) بأنهم أُمروا باجتياح تجمعهم المديني المجتمعي، وإحراق بيوتهم، وجدران مدينتهم، وهم يباهون بأنهم نفّذوا تعاليم كتابهم وزياردة، فقد قتلوا كل السكان، ولم يبقوا منهم أحدا، وقتلوا حتى حيواناتهم، وأبقوا فقط الأواني التي تنفعهم في إعداد أطعمتهم كونهم عاشوا في الصحراء تائهين أجلافاً، وكما يقولون: بقيادة يوشع!
هناك دراسات آثارية تقول بأنهم لم يدخلوا أريحا، وأنهم لا يعرفونها، وأنهم ينتحلون ويزورون تاريخا لا حقائق تسنده، ومع ذلك يقرّون ويباهون بأنهم اقترفوا كل الجرائم الوارد ذكرها في كتابهم( سفرالخروج)!
إذا ما انتقلنا إلى زمننا، وتأملنا ما فعله ويفعلنه هؤلاء الغزاة من جرائم في فلسطين، فإننا بالتأكيد لن نستغرب الوحشية التي يتلقنها هؤلاء الغزاة تجاه( الأغراب) الجوييم، وهم كل البشر، والذين يحق لهم أن يستبيحوا حياتهم..ذبحا وسبيا وغزوا وسرقة،والحق أنهم اقترفوا كل هذا بحق الشعب العربي الفلسطيني، وفي بعض الأقطار العربية، وأولها مصر، فقد قصفت طائراتهم مدرسة بحر البقر، ولقد أجبروا الجنود المصريين أن يحفروا قبورهم بأنفسهم وأطلقوا عليهم الرصاص ليسقطوا في الحفر..وقصفوا حمام الشط في تونس، ولقد أسهمت شخصيّا في جمع فُتاة أجساد الشهداء التوانسة والفلسطينيين التي اختلطت معا.
أمّا في لبنان فلم يوفروا القرى، ولا المدن، ولعلّ مذبحة صبرا وشاتيلا ومذبحة (قانا) تبقى العنوان الأبرز على بشاعة ممارسات الكيان الصهيوني وجيشه،وولوغه في الدم الفلسطيني واللبناني..ناهيك عن السوري.
مع ذلك يكتب بعض كتابهم عن ( طهارة السلاح) ممجدين جيش الاحتلال وما يقترفه من ممارسات وحشية مُخزية لأي جيش، مثل هدم البيوت، وقتل الأطفال الفلسطينيين علنا- آخرها جريمة قتل الطفل رايان الذي طارده جنود الاحتلال حتى انقطع نفسه وسقط ميتا_ ودون حرج، واغتيال النساء، ومنهن سيدات متقدمات في العمر، وآخرهن حتى اللحظة السيدة (غادة السباتين) الأم لستة أطفال.
هنا لا بد أن نتوقف أمام مشهد البطل الشاب، الذي نفذ عمليته البطولة عندما اقتحم حي(المتدينين) وشهدت له امرأة يهودية بأنه طلب منها أن تغادر المكان (لأننا) لا نقتل النساء ولا الأطفال، وأضافت بأنها شاهدت امرأة يهودية من الحريديم – الأكثر تطرفا وعنصرية- ومعها أطفالها فطلب منها أن تغادر المكان نجاة بنفسها وبأطفالها..أترون أيها المُحتلون المستوى الحضاري الرفيع للمقاوم الفلسطيني؟!
لم تكن تلك واقعة نادرة، فالبطل ثائر كايد حمّاد بطل معركة وادي الحرامية، التي قتل فيها أحد عشر جنديا صهيونيا، والذي غادر المكان بهدوء، شهدت له امرأة يهودية كانت تصطحب ابنها وعندما توقفت بسيارتها في موقع الجنود صاح عليها أن تبتعد كي تنجو..ونجت، وقد توجهت للمحكمة لتشهد له بأنه كان يستهدف الجنود وليس المدنيين وقد طُردت ومنعت من دخول المحكمة لأداء شهادتها..لأن المستوى الحضاري النبيل للمقاوم الفلسطيني يُحرج الاحتلال وجيشه ومستوطنيه.
كيف يُعامل جيش الاحتلال النساء الأمهات الفلسطينيات، وآخرهن السيدة (السباتين) الأم لستة من الأبناء والبنات؟!
لقد أطلق عليها الرصاص وهي امرأة مسنة، لا تحمل سلاحا، حتى ولا سكينا، بمشهد إعدام من جنود الجيش الاحتلالي الذي يعدم يوميا أطفالاً ونساء وشيوخا بدم بارد، علما أنهم لا يحملون سلاحا، وأنهم مدنيون…
إنه (جيش) يؤمن بالإبادة للأغيار، للجوييم، وينفذ تعاليم حاخامات يحضون على قتل العرب لأنهم( حيوانات) و( صراصير) …
إن شعار جيش العدو،ودليله للتعامل مع العرب، صغارا وكبارا هو: العربي الجيّد هو العربي الميّت..فكيف تستقيم (طهارة السلاح) قي هذه الثقافة التي تجلّت في مذابح لا تنتهي، وتواصل التجلّي دما وموتا فلسطينيا أمام أنظار البشر أجمعين في كل جهات العالم القريبة والبعيدة؟!
ثمّة ثقافة إنسانية تتجلى يوميا أمام العالم يتمتع بها العربي الفلسطيني، وثقافة العنصرية والوحشية وحقارة السلاح الذي يحمله جيش يسرق بلادا يدافع عنها أهلها حتى الاستشهاد وتفيض من قلوبهم الرحمة تجاه النساء والأطفال وكبار السن رغم أنهم من الأعداء.
يُصرح قادة الكيان الصهيوني بأن ما يجري في الضفة من مقاومة متصاعدة هي عمليات إرهابية، وبهذا يبرر هذا الاحتلال القتل اليومي للفلسطينيين، وتدمير البيوت، والحصار المستمر لتيئيس الفلسطينيين، وقطع الطرق بالحواجز..وأين؟ في المناطق التي يفترض أنها تابعة( للسلطة) التي هي نتاج سلام( أوسلو)!
على أرض فلسطين كلها تدور معركة مصيرية كبرى بين الاحتلال الصهيوني الذي يخوض حربه في الاستيلاء على ( كل) فلسطين، و(طرد) كل أهل فلسطين..وبين شعب فلسطين العربي المقاوم الذي يُحبط خطط الصهاينة وأهدافهم..
لقد صعدّ عرب فلسطين من مقاومتهم، واستفادوا من مراكمة خبراتهم بحيث لم يعد الاحتلال وجيشه الوحشي الممارسات قادرا على معرفة أساليب المقاومين وقدراتهم التنظيمية، وهذا ما يربك أجهزة الاحتلال رغم ما تمتلكه من قدرات ووسائل.
شعبنا يبدع في مواجهة الاحتلال،ويصعّد مقاومته، ويطوّر أساليبه، ومن بين صفوفه يندفع شباب بواسل شجاعتهم تصدم العدو وأجهزته..وما ينجزه مقاومة وليست إرهابا..وهي مقاومة تُرهب العدو، وتفقده الطمأنينة..والشعور بأن له مستقبلاً على أرض فلسطين، كل فلسطين، وليست الضفة الغربيّة..فلسطين قلب الوطن العربي..ومستقبله.
رشاد أبوشاور