بخيال الشاعر، وبصيرة الناقد الأدبي، وعقلية الباحث، كتب د. محمد السيد إسماعيل مقالات متتابعة، جمعها في كتاب عنوانه “نقد الفكر السلفي”، قام إسماعيل فيه بحل معضلة أمام الباحثين في مجال دراسات الحركة السياسية الإسلامية عموما، حين تبنوا جميعا الاصطلاح الذي صكه متطرفون مسلحون حين أطلقوا على أنفسهم “السلفية الجهادية” التي ضمت تنظيمات إرهابية على رأسها القاعدة وداعش.
فهذا الاصطلاح تم تداوله على نحو مفرط، وفرق الباحثون بينه وبين “السلفية الدعوية” أو “المدرسية”. أما إسماعيل فذهب إلى المعنى من أقرب طريق حين أٍسماها “السلفية القتالية”، ما يجعلني في هذا المقام، ألتقط الخيط منه لأقترح تسميتها بـ “السلفية المسلحة”، أو “السلفية العدوانية”.
الكتاب، الذي صدر مؤخرًا عن وكالة الصحافة العربية، لا يتعامل مع السلفية باعتبارها طريقا أو فريقا واحدا، إنما هي سلفيات عدة، ما يجعلها تنتج مجموعة من التصورات أو الخطابات والمفاهيم والرؤى التي بينها أصناف من الائتلاف والاختلاف.
ويبرز هذا الاختلاف أكثر في مجال السياسة، فبعض السلفيين يؤيدون الخروج على الحاكم، بل يكفرونه، وبعضهم يطالب بطاعته بشكل أعمى، والثقة التامة فيه مهما قال أو فعل. وبعض السلفيين يرفضون المشاركة السياسية وفق المسار الديمقراطي باعتباره نموذجا مستعارا لا يتواءم مع هوية المسلمين وخصوصيتهم القائمة على الحاكمية، بينما نجد أن بعضهم سارع إلى تشكيل أحزاب سياسية بعد ثورة يناير، وخاض غمار الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
يواصل إسماعيل صك المصطلحات اللافتة، فيتحدث عن “السلفية النصوصية” التي تتكئ إلى ظاهر النص، وتقدم الرواية على الدراية، والنقل على العقل، وتهرب من التأويل وما يتضمنه من مجاز. ويعود الكاتب بهذا الصنف من السلفية إلى القرن الثالث الهجري حيث الصراع الذي دار بين أهل الأثر أو أهل الحديث وبين الأشاعرة والمعتزلة وانتصرت السلطة للمتسلفة فيما بعد، واستمر تأييدها لهم، فاستمر الخيط الغليظ ممتدا من أحمد بن حنبل إلى أحمد بن تيمية وصولا إلى محمد بن عبد الوهاب، ليصنع تيارا قويا يبدو مغتربا عن زماننا في طريقة التفكير أو الزي أو الطقوس.
أمثلة عديدة
ويضرب الكتاب أمثلة عديدة على هذا الاغتراب، أو تلك المغايرة من خلال تناول موقف السلفيين من الديمقراطية والمرأة، ودولة المواطنة، ثم يلتقط مثلا أعمق لواحد من كبار منظري “السلفية القتالية” هو سيد قطب، فيراه عبر كتابي محمد حافظ دياب وشريف يونس عنه، وهما من أفضل ما كتب حول فكر قطب وشخصه. ثم ينتقل بالعرض والتحليل لكتب أخرى تناولت هذه الظاهرة، مثل كتاب عمار علي حسن “شبه دولة.. القصة الكاملة لتنظيم داعش”، وكتاب “نساء داعش.. سبايا ومحظيات” لأسماء مصطفى كمال، وكتاب “صوت الإمام” لأحمد زايد، وكتاب “دولة الإمام.. متى تخلع مصر عمامة الفقيه” لرباب كمال، وكتاب “أديان وطوائف مجهولة.. حقيقة واحدة ووجوه عديدة” لرضوى الأسود.
ومن مزايا الكتاب أنه لا يكتفي بنقد التسلف، إنما يسعى إلى طرح بديل أو “ثقافة بديلة”، فيعيد سؤال النهضة، ويتقضى ماهية الحداثة، ويقف على خصوصية مصر وهويتها، وفريضة التجديد ودور الأزهر في هذا. متكئا في هذا إلى العديد من الكتب المهمة التي تناولت هذه القضايا، وهنا يطل برؤوسهم مفكرين مصريين مهمين عبر كتبهم مثل توفيق الحكيم ويحيى حقي وجمال حمدان ومحمد عمارة.
ومن مزايا الكتاب أيضا أنه لا يقف عند مقارنة التسلف بغيره داخل المذهب السني، إنما يقارنه بالفكر الشيعي، عارضا في هذا نظرية الإمامة، وما يقوم حولها من جدل، وعائدا إلى الجذور السياسية للصراع المذهبي بين المسلمين، ليجد في تحكيم العقل هو السبيل إلى الخروج من هذه الشرنقة، مستندا في هذا على رأي أبي العلاء المعري الذي قال في بيت شعر شهير: كذب الظن لا إمام سوى العقل.. مشيرا في صبحه والمساء.
في الحقيقة فإن التيار السلفي على اختلاف مدارسه وتوجهاته يضرب بجذور عميقة في تربة التصور الإسلامي وتاريخ المسلمين على السواء، ولذا لا يمكن الإلمام بخرائط تواجد وانتشاره وعمقه الاجتماعي، ولا بطبيعة أطروحاته وأفكاره، ولا بشبكة علاقاته ومدركاته ونظرته للآخرين سواء داخل فضاء الدعوة والحركة الإسلامية أو خارجه، من دون العودة إلى الأسس التي انطلق منها، والتي لا يزال يعيد إنتاجها في الزمن الراهن من دون تغيير أو تعديل جوهري، ظنا منه أن هذا هو “الطريق المستقيم” بالمعنى الديني أو الاعتقادي، وأيسر السبل إلى الخير والإنجاز بالمعنى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك اتكاء على ما نُسب إلى الرسول الكريم من قوله “خير القرون قرني ثم الذي يليه”، وكذلك وفق تصور يعتقد في أن من رأوا النبي وصحابته هم الأكثر قدرة على الوصول إلى الجوهر العميق للإسلام وتطبيق فرائضه وتعاليمه وأن ما كانوا عليه يجب أن يكون عليه كل المسلمين مهما تقدم الزمن وتغيرت الظروف.
وعلى مدار القرون التي خلت والتيار السلفي يمر بأوقات ازدهار وانحسار، صعود وهبوط، لكن وجوده لم ينقض، وأطروحته لم تنته، بل انكمشت حين وجدت صدودا من السلطة أو المجتمع ولاسيما طليعته الفكرية وصفوته الاقتصادية، ثم تمددت حين أقبلت عليه. ويعود هذا بالأساس إلى أمرين:
الأول هو أن السلفية ليست تنظيما محكما له رأس وأتباع، بل هي تيار تنتقل أفكاره من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل، حتى ولو بأجنحة مهيضة، وتجد دوما من يعتقد في أنها تمثل الدين في صفائه أو أصله الأول، ولذا يتمسك بها، ويدافع عنها دفاعا مستميتا. فكثير من التنظيمات المعسكرة والمسيسة أبيدت عن آخرها، وصارت أثرا بعد عين، بل إن بعض ما كانت تؤمن به من تصورات ذاب معها وصار نسيا منسيا، بينما بقيت السلفية على قيد الحياة، يتم استدعاؤها من قبل البعض على أنها “الحل السحري” كلما تأزم المسلمون، وتملكهم حنين جارف إلى أيام مجدهم الغابر، فظنوا أن بوسعهم أن يستعيدوا التاريخ بحذافيره، بشخوصه وسياقاته ومقولاته، في ماضوية تتجدد كلما تجددت الهزائم والانكسارات.
أما الثاني فهو أن السلطات السياسية المتعاقبة على مدار تاريخ المسلمين وجدت في “السلفية الوديعة المستأنسة” نصيرًا مضمونًا لمواجهة التنظيمات المناوئة للحكم والتي ارتدت ثوبًا دينيًا أو وظفت خطابًا دينيًا في تعبئة الناس حولها، وتبرير مسلكها. وإذا كان هناك شيوخ كبار قد ناطحوا السلاطين في بعض المواقف، مثل ابن حنبل وابن تيمية، فإن الغالبية منهم إما صبروا على جورهم أو تساوقوا معهم وجاروهم.
نظرة تحليلية
والكتاب الذي بين أيدينا يفتح عمومًا، ودون إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، الباب إلى نظرة تحليلية عامة للتيار السلفي على النحو التالي:
1 ـ الأسس المعرفية والفقهية التي ينبني عليها التيار السلفي، والتي اتبعت خطا في تاريخ المسلمين تعافى على يد الإمام أحمد بن حنبل، وتراخي ليتجدد مع “ابن تيمية”، ثم ضعف ليأخذ دفعة جديدة على يد محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه أو المتأثرين به والمتبعين خطاه. وهي أسس مهمة في إدراك المجتمع العميق للسلفيين، الذي لا يعتمد فقط على التصور السياسي المتعجل، مثلما يفعل الإخوان، إنما يبني تمدده وتغلغله بالأساس على الأفكار العتيقة، التي يسوقها باعتبارها صالحة لزماننا، وبها يجند أتباعه، أو العالقين به، والدائرين في فضائه الواسع.
2 ـ الخريطة الاجتماعية ـ السياسية للتيار السلفي في الفترة الحالية والتي تبين أن السلفيين ليسوا فريقا واحدا منسجما إنما بينهم تباينات سواء في أسباب النشوء والانطلاق أو في الرؤى والمرجعيات أو في المصالح والمنافع، أو في علاقتهم بالآخر، وتصورهم عن الذات والعالم.
وفي هذه النقطة تتشابه السلفية في مصر مع نظيرتها وأضرابها في العالم الإسلامي كله، بل إن السلفية المصرية، وعلى العكس من الإخوان كتنظيم انطلق من مصر، يدور في فلك التنظيمات والأفكار المتسلفة في العالم الإسلامي، ومن هنا لا يمكن معالجة العمق الاجتماعي للسلفيين المصريين بعيدا عن السلفيات الأخرى.
وهنا أيضا لا بد من الالتفات إلى تسرب النزعة السلفية إلى التنظيمات الحركية التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، سواء بادعاء النقاء والأصالة، أو بالسليقة، أو بتطويع التسلف لخدمة التوجهات السياسية. كما يظهر المشروع السياسي المستتر، والمشروع الجهادي الكامن لدى السلفية الدعوية، سواء بنزعتها إلى تشكيل أحزاب تعمل تحت طائلة الشرعية السياسية والمشروعية القانونية أو مناصرة السلطة القائمة في وجه معارضيها حتى من بين الجماعات والتنظيمات المسيسة التي تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، أو بانزلاقها إلى دائرة العنف تحت راية “الجهاد المسلح” بعد التحول إلى “سلفية جهادية”.
3 ـ مستقبل السلفيين في ظل التغيرات التي يشهدها واقعنا في اللحظة الراهنة، وفي ظل التحديات التي تواجه التيار السلفي، حيث الخطاب الماضوي، والبنية المعرفية التي تسير في اتجاه مخالف لتقدم التاريخ وتعزز المدنية، ومنظومة المعارف والسلوكيات التي تخاصم العصرنة إلى حد بعيد.
د. عمار علي حسن