الروائي الذي أحدث ثورة في الدراما التلفزيونية
مثل رواية لم تكتمل، كان رحيل خالد خليفة، مؤثراً وصادماً، حزيناً وشاقاً على أحبائه وقرائه، ربما لإدراكهم أنه رحل تاركاً خلفه سطور كلمات ظلت عالقة بين فضائين، لم يتسن لها الوقت لتتجسد في واقع ملموس، فبقيت حبيسة صدر صاحبها ورحلت معه، هو الذي راوغ الموت في عبارات فاتنة، ثم استسلم له في لحظة مباغتة، ومن دون إنذار.
كتب خالد خليفة، على لسان أحد أبطال روايته “لم يصل عليهم أحد”، قائلاً: “الدم الذي يجري في عروقي كان لرجل ميت، نهضتُ، للمرة الأولى صنعتُ قهوتي، جلستُ قرب النافذة، كانت الشمس تغرب، كم هو ساحر مشهد الشمس حين تغرب، لون الليل يتغير مع كل لحظة، شعرتُ بخفة لا متناهية، كما يشعر كل الأموات حين يتورطون في العيش مع البشر”.
كما لو أن ثمة جسوراً ربطته بالموت، بشكل أو بآخر، ليس على المستوى الإبداعي فقط، من خلال تصديره عنواناً لأحد رواياته “الموت عمل شاق”، أو طرحه بشكل موارب في “لم يصل عليهم أحد”، والمقصود في النص صلاة الجنازة، أو من خلال الحضور الفلسفي للموت في رواياته عبر تكرار الحديث عنه، سواء في وصف الحالات التي تسبقه وتليه، أو في وصف المدافن وأحوال الأحياء في علاقتهم مع الموتى. هل رأى أن مواجهة الموت عن كثب ليست إلا مغامرة يمكن النفاذ منها، للكتابة عنها لاحقاً؟
لذا تبدو عبارة ورطة الحياة، معبرة بدقة عن حال هذا الكاتب، سواء في رؤيته لفعل الإبداع، أو في طبيعة علائقه مع الحياة والموت، وما امتد بينهما من سنوات عمره المغموسة بحبر الكتابة عن الأسى والخوف، ثم الحفر عميقاً للكشف عن آليات الوجع والدمار الإنساني المفجع، الذي لا قِبل للفرد بصده لحظة حضوره.
رفقة التوجس
في أحد حواراته علق خليفة على حضور ثيمة الموت في معظم أعماله قائلاً: “دوماً، أفكِّر:لماذا أصبح الموت تيمة رئيسية في كلّ كتبي؟ حقيقةً، لا إجابة لديّ، لكن هناك جاذبية في الكتابة عن الموت والحبّ، وأنا متورِّط في التفكير والعيش والكتابة عن هذه المتلازمة”.
رسمة ونصوص لخالد خليفة
لم تكن رواية “مديح الكراهية” الصادرة عام 2006، رواية خليفة الأولى، فقد نشر قبلها روايتين هما “حارس الخديعة”، و”دفاتر القرباط”، لكن “مديح الكراهية” شكلت حضوراً إبداعياً لافتاً عربياً ثم عالمياً، فهي استطاعت الوصول إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية، خلال دورتها الأولى، وهذا بحد ذاته أدى إلى بروز اسمه في مصاف أهم الأسماء الروائية عربياً. تقع أحداث الرواية في حلب خلال ثمانينيات القرن الماضي، وقد حملت رؤية خليفة للقمع السياسي ونتائجه الاجتماعية. يستطيع قارئ هذه الرواية، منذ الصفحات الأولى، ملاحظة مدى احتشاد هذا النص بالأفكار والمشاعر المتشابكة والمضطربة؛ عبر البدء مع صوت أنثوي لبطلة، تسرد تفاصيل حياتها، وعالمها الباطني وسط جوقة من النساء. ثم ينغزل جانب الفكر- سياسي داخل النص، مع الواقع اليومي لأسرة حلبية، فيأتي سلساً ومتدفقاً بحميمية بعيدة عن الخطاب المباشر. ويحمل القارئ من مدينة حلب الشهباء وعوالم نسائها السرية، إلى أفغانستان والرياض وعدن ولندن، كي ينسج تفاصيل تتعارك فيها، رغبات الحب والكراهية، ثم تفوح رائحة الدماء وعطن السجون، وتتردد الأسئلة الحارقة التي تظل بلا إجوبة، عن الأسباب المؤدية إلى كل هذه المعاناة المجانية.
أمضى خليفة ثلاثة عشر عاماً في كتابة هذه الرواية، وكانت رؤيته أنها كُتبت من أجل الدفاع عن الشعب السوري، كوسيلة للاحتجاج على المعاناة التي تحملوها بسبب العقائد الدينية والسياسية، التي حاولت نفي حضارتهم العائدة إلى عشرة آلاف سنة. نقرأ: “الليل الذي أصفه ينسحب ببطء وأنا شاردة، في رأسي تتداخل المونولوغات، تختلط الصور والأحاديث، خالاتي وأخوالي، أمي وأبي، وأخي حسام الذي لم أتوقف عن رؤيته متهادياً نحوي، ساخراً من الموت، أيام الاعتقال الأولى، ومفاجأة أننا نستطيع العيش في جحر مليء بالديدان والعفونة… سلمت أمري لله وتأملت السجينات اللواتي رافقنني رحلة الجحيم هذه، الحجة سعاد ابتكرت طريقة فريدة لعد أيامها، كل يوم تقطب قطبة بخيط أسود في ثوبها الوحيد، قطب خيط أسود ليشهد على بؤسها في هذا المكان، وتخليها عن ولعها بأثواب الحرير والجوخ كامرأة تحب الأناقة والنظافة.”
سكاكين المدينة
تبدأ رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، بحادثة موت أيضاً، وصوت الراوي يقول: “تذكرتُ أن أمي لم تبلغ الخامسة والستين من عمرها كي تموت بهذه الطريقة المفاجئة، فرحتُ في سري واعتبرتُ هذا الحدث تأخر عشر سنوات، بسبب تشكيها الدائم من نقص الأوكسجين…”.
يروي خليفة في هذه الرواية، عبر سرد متماسك ولغة رفيعة، سيرة عائلة تمتد جذورها إلى ما يتجاوز الزمن الحاضر، وصولاً إلى حكاية الجد جلال النابلسي الذي يعمل في محطة القطارات، وعاش سبعة وثمانين عاماً. وفي ذكرى يوم الاستقلال العشرين ارتدى بذلته الجديدة، ثم بهدوء رجل يحب الأفعال المكررة، علق كل أوسمته، وذهب للاحتفال مع رفاقه، وفي طريق عودته فقد توازنه ومات تحت عجلات القطار. أما الجدة بهية فقد ماتت من الضحك قبل أن تُكمل الخمسين من عمرها، ظلت جثتها على كنبتها العريضة مبتسمة، لا يجرؤ أحد على التصديق أنها ماتت.
التوقف أمام مآلات الموت وسبله المختلفة يحضر على مدار الرواية، في شكل واقعي ونفسي، سواء عبر النهايات الملحوظة للأبطال، الذين يُلاقون حتفهم بطرق دراماتيكية أحياناً، أو عبر الخواء الذي يتفشى في حياتهم، نتيجة تلاشي أحلامهم وأمنياتهم. لنقرأ وصفه لشخصية الأم: “كانت غير مبالية، تساوت لديها خيارات الحياة والموت بعد زواجها من جدي جلال النابلسي، الذي لم يرفع عينيه لينظر إليها، ولم يُطالب بحق الخلوة الشرعية، منذ اللحظة الأولى بدا لها خروفاً لا مبالياً، تقوده عائلته لإكمال واجب يجب أن يتم بسرعة ومن دون جلبة”.
بيد أنه على رغم وجود حضور كثيف لحالات الخوف، التوجس، والرغبات المستبعدة، والقمع الذي يتعرض له معظم أبطاله، إلا أن صاحب “مديح الكراهية”، اعتاد أن يحتفي بالحب والجسد، وبتجليات الفرح في لحظات قليلة. إلا أن هذه الحالات لا تشغل لديه مساحة كبيرة في السرد، إذ سرعان ما يقع حائل ليفرق بين الحبيبين أو الزوجين، أو أن يكون أحد الأبطال متورطاً في حب من طرف واحد، يتأخر عن الجهر به.
بطولة منفردة
لا يمنح خليفة بطولة محورية لشخصية بعينها، بقدر تركيزه على عدة شخصيات، تُمكنه من الإضاءة على تفرعات سردية تتداخل فيها الذوات الأنثوية والذكورية في حضور قوي وجماعي، يبتعد عن الفردية. وهذا يعود لاختياره الكتابة عن مجتمعات يبدو الحضور الأمومي بمفهومه الممتد، ضارباً في جذورها. يختار دائماً البدء من لحظة مفرقية، تؤدي إلى حدوث تحولات في حياة الأبطال، مثل موت الأم في رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، أو موت الأب في “الموت عمل شاق”، وطلبه من ابنه بلبل أن يدفنه بجوار أخته ليلى، في قريته العنابية. وهكذا يكون على بلبل وأخويه حسين وفاطمة أن يقوموا بالقرار الصعب، التحرك في بلد يرزح تحت ثقل الحرب مع جثة أبيهم، بين مسلحين ونقاط تفتيش لتنفيذ وصية الأب. وخلال هذه الرحلة يتعرض الأشقاء لكل أنواع الأخطار، بداية من هجوم الكلاب البرية، ثم التعارك بين الأخوين حسين وبلبل. ولا تغيب عن القارئ الدلالة الرمزية لهذا العراك، ثم توقيف بلبل على يد إحدى الجماعات المتطرفة، مما يُجبر حسين وفاطمة على متابعة طريقهما لدفن الأب. بعد انتهاء الرحلة وتمكن الأبناء من دفن والدهم، يخوضون سوياً طريق العودة إلى دمشق، وفي داخل كل منهم تلوح كل خيالات الرحلة، وما مروا به جميعاً من حواجز أرضية أعاقت مسيرتهم، ونفسية كشفت عما يدور في أعماق نفوسهم. يقول: “على بوابة دمشق التي وصلوها مساء، نزل بلبل ولوح بيده مودعاً حسين من دون أي كلمة، أعجبه صمته خلال الأيام الخمسة الماضية. فتح باب منزله في التاسعة مساء، كانت رائحة أبيه تفوح في كل زوايا البيت وتزكم أنفه، أغلق الباب وجلس وسط الظلام، شعر أنه وحيد أكثر من أي يوم مضى…”.
يلاحظ قارئ رواياته، أن هناك أماكن وأسماء وحالات تتكرر في نصوصه، مثل اختياره أن تشغل مدينة حلب، مكان السرد في رواياته. كان لالتصاق خليفة بواقع وطنه سوريا، انعكاس واضح على اختياراته الحياتية، ونصوصه الإبداعية، واقعياً في رفضه مغادرة دمشق بعد اندلاع الحرب، وهجرة معظم المثقفين والفنانين نحو البلدان الأوروبية والعربية، وإبداعياً في اختيار موضوعات رواياته من ضمن الواقع أو التاريخ السوري، كما في رواية “لم يصل عليهم أحد”، التي تم اختيارها في عام 2020، لتكون ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”.
تبدأ أحداث هذه الرواية التاريخية المهمة في عام 1907، في حلب، مع كارثة طبيعية تمثلت في طوفانٍ أغرق البيوت، ولم ينجُ منه سوى ماريانا نصار وشاها شيخ موسى، بسبب تشبثهما بجذع شجرة جوز. كان من ضمن قناعات خليفة أن التاريخ لا يتوقَّف عن إعادة إنتاج نفسه، لذا تستكشف هذه الرواية عبر سرد يتخذ صفة الملحمية، سُبل الإنسان للمقاومة والنجاة من موت محقق، في مواجهة الأوبئة والكوارث، وفي تناحر التطرف والأهواء الحاقدة التي تقود إلى الموت، كما حدث مع شخصية “عائشة المفتي”، التي لقيت حتفها بسبب الغيرة. لنقرأ من هذه الرواية ما يعبر عن علاقة خالد خليفة بالحياة والموت، يقول واصفاً إحدى الشخصيات: “لو أنه قضى بقية عمره يراقب الحياة والموت من النافذة، في الأرض الموات، فسيجد البشر يعيدون العمل نفسه، يبنون منازل جديدة، يتزوجون وينجبون أطفالاً ثم يموتون واحداً تلو الآخر، أو يأتي طوفان جديد ويمنحهم لذة الموت الجماعي، مراقبة هذه الدورات أعادت إليه يقينه بأن كل شيء عبث، لا يمكن ضبطه”.
الدراما الروائية
ثمة تناص قام به ابن مدينة حلب، بين حياته الواقعية وأبطال رواياته، الحضور الأنثوي الرهيف الذي نجده في رواياته، استمده خليفة من انتمائه إلى أسرة كبيرة فيها أكثر من عشرة أبناء وزوجتين، وعمات وخالات. أما جدته مريم المرأة المتصوفة، فنجد صدى شخصيتها القوية يتسلل إلى معظم أعماله.
لم يبتعد خليفة في مسلسل “سيرة آل الجلالي”، عمله الدرامي الأول، عن أجواء حلب أيضاً، فتناول في هذا العمل تاريخ عائلة آل الجلالي، وهي واحدة من أعرق عائلات مدينة حلب. لكن العمل الذي كان فاتحة خير عليه بسبب النجاح الذي حققه، تزامن عرض الحلقة الأولى منه مع حدث وصفه بأنه الأقسى في حياته، وفاة والدته.
استمر خالد خليفة في تقديم عدة أعمال للشاشة الصغيرة، أبرزها ظهر في عام 2009، عمل درامي بارز بعنوان “هدوء نسبي”. هذه المرة حلق بعيداً من حلب ودمشق، طائراً نحو بغداد كي يحكي عما يواجهه الإعلاميون من أخطار خلال ممارستهم عملهم الصحافي. وصف علاقته مع الدراما بأنها ساعدته في الجانب المالي، والتقني، فما كتبه درامياً حفزه على إحكام التعامل مع عدد كبير من الشخصيات الروائية.
حظي خالد خليفة باهتمام نقدي؛ فقد نال جائزة نجيب محفوظ عام 2013 عن روايته “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة “البوكر” العربية، وتُرجمِت رواياته “مديح الكراهية”، و”لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، و”الموت عمل شاقّ”، و”لم يصل عليهم أحد” إلى عدد من اللغات الاجنبية.
على مدار حياته، أخلص خليفة للإبداع، باختياره الكامل، وعلى رغم عدد رواياته القليل نسبياً، فقد دافعت هذه الروايات عن وجودها، وتمكنت من ترك بصمة في مسار السرد الروائي العربي. وقد كان مثالاً واقعياً للمثقف الجريء المنشغل بقضايا وطنه، والذي لم تتغير قناعاته وآراؤه وفقاً للتغيرات الجيوسياسية من حوله.